قضى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ليلة من الليالي ساهرًا مسهدًا ، ولم يستطيع أن ينام في هذه الليلة البادرة ، فلقد كان مشغولًا في تلك الليلة بأمر اختيار قاضٍ للبصرة ، ويكون شخصًا يأتمنه ، ويقيم بين الناس عدل الله ، ويحكم بما أُنزِلَ في القرآن والسنة ، ولا يخشى في الحق لومة لائم .كان أمير المؤمنين رحمه الله في حيرة من أمره بين شخصين لم يستطع أن يختار منهما ، فكان عندما يجد بأحدهما ميزة على الآخر وجد بالآخر ما يلاقي هذه الميزة ؛ فكلاهما كانا يتمتع بالتفقه في الدين ، والصلابة في الحق ، والفطنة ، والعمق في الفكر .وعند الصباح دعا عمر بن عبد العزيز والي العراق عُدي بن أرطاة ، وسأله أن يجمع بين بينهما ويكلمهما في أمر القضاء وأن يختار أحدهما ، اجتمع عُدي بـ إياس بن معاوية والقاسم بن ربيعة ، وقال لهما ما سأله فيه أمير المؤمنين فما كان من كل منهما إلا أن يُفِضَل صاحبه على نفسه ، حتى استقر بهما الرأي على إياس بن معاوية المُزنِيُّ .مولده ونشأته :
ولد إياس بن معاوية بن قُرَّة المُزنيُّ سنة 46هـ في منطقة اليمامة بنجد ، وانتقل مع أسرته إلى البصرة وفيها نشأ وتعلم ، وكان يتردد على دمشق في أوائل صباه ، وأخذ من العلم ما استطاع ممن أدركه من الصحابة الكرام ، وأكابر التابعين .كان الصبي من صغره مشهورًا بالفطنة وقد ظهرت عليه علامات النجابة ، وكان الناس يسردون فيما بينهم من أخباره ونوادره منذ نعومة أظافره ، وانكب الفتى على العلم والمعرفة ينهل منه حتى وصل إلى منزلة جعلت الشيوخ يخضعون له ، ويسعون لتتلمذ على يديه ، وأخذ العلم منه بالرغم من صغر سنه .وفي سنة من السنوات قَدِمَ عبد الملك بن مروان إلى البصرة ، وكان ذلك قبل أن يتولى الخلافة ، وكان الفتى يجلس متقدمًا أربعة من الشيوخ من ذوي اللحى ، فاستنكر عبد الملك بن مروان ذلك وقال لهم : أما فيهم شيخ يتقدمهم ؛ فقدموا هذا الغلام ؟! ، وعندما عَلِمَ عن مكانة الفتي قال له : تقدم يا فتى تقدم بارك الله فيك .وشاعت أخبار عن ذكاء التابعي الجليل ، وأصبح الناس يأتون من كل مكان في البلاد وخارجها ؛ ليتلقوا منه العلم ويسألونه ويلقون بين يديه مشكلاتهم في دينهم .التابعي قاضيًا…
وعندما تولَّى التابعي رحمه الله رحمة واسعة القضاء بالبصرة اشتهر بفطنته وسعة حيلته وقدرته الواسعة على كشف الحقائق ، ومن هذه القصص التي تدل على فطنته ، أنه جاءه ذات يوم رجل يشكو من آخر كان قد أودعه أمواله كأمانة عنده وعندما أراد أن يسترجعها منه أنكرها عليه .وكان ذلك الرجل الذي أنكر المال مشهور بأمانته بين الناس ؛ فلم يصدق أحد أنه قد يأخذ المال ثم ينكره عليه ، فلم يجد الرجل المظلوم إلا أن يذهب إلى القاضي العادل ، فطلب منه التابعي أن ينصرف ويعود في اليوم التالي ، واستدعى الرجل الآخر وعندما أتاه قال له أن لديه من المال الكثير كان قد جمعه للأيتام ، وأنه يريد أن يحفظه عنده وطلب منه أن يأتيه بعد يومين ومعه ما سوف يضع به المال .وعندما جاءه الرجل المشتكي في اليوم التالي طلب منه أن يذهب لذاك الرجل ، وإذا انكر عليه ماله يهدده أنه سوف يشكوه للقاضي ، وبالفعل أنكر الرجل المال ولكن عند ذكر الرجل للقاضي وأنه سوف يشكوه له أعطاه ماله وحاول مراضاته ، فذهب الرجل صاحب المال وأخبر القاضي بما كان من ذلك المحتال ، فلما ذهب له بعد يومين عنَّفه تعنيفًا شديدًا وقال له : لقد جعلت الدِّين مصيدة للدنيا .وفاته :
توفي القاضي الجليل عن عمر يناهز السادسة والسبعين ، فرحمة الله عليه فقد كان نادرة من نوادر الزمان ، وأعجوبة من أعاجيب الدهر .