مَن هذه الغريبة ؟ لماذا تحدق في وجهي بهذه الوقاحة ، تسخر مني وتجعلني أنطق بأسئلة غريبة : هل تقع الأرض إذا توقفت عن الدوران ؟ ، ضحك الحاضرون ، فأخرستها بسرعة ، ولأنها عنيدة ، فهي لا تكف عن اقتحام حياتي ضاربة بنضجي عرض الحائط ، حاولت مداراتها مراراً وتكراراً ، أخبرتها أن دورها انتهى ، واجهتها بحقيقة موتها ، فأخرجت لي لسانها وقالت : لا نحيا معاً ، ونموت معاً ..حيرة وقلق :
تحيرني قدرتها الخارقة على الصعود من الأعماق حيث دفنتها مراراً ، تباغتني وتبعثرني وتجعلني أنطق بأسئلة غريبة : لماذا نرقع رأسنا إلى الأعلى كلما أردنا النظر إلى السماء ، ولا نخفضها إلى الأسفل ؟ ، لماذا لا نستطيع النظر إلى السماء من تحت الكرة الأرضية ؟ .. قفز السؤال على فمي بالرغم مني ، يضحك الحاضرون ثانية ، لأن الأرض لا تملك شرفة ولا تملك أطرافاً ..من هي الغريبة :
من هي هذه الغريبة التي تسري في أجزائي كدبيب الحُمى ؟ من أين تأتي بالقوة لاجتياحي وأنا عارية من أي سلاح أدافع به عن نفسي ؟ .. أرجوكِ دعيني وشأني ، لا خبز يكفينا نحن الاثنتين ، فتبكي ويخرج الدمع من عيني أنا ..أنا الذكريات :
من هذه الغريبة ؟ تقول : أنا الذكريات ، البراءة ، الطفل المهمل ، أنا الممتلكة وأنتِ لي ، أيأخذها أحد بعيد عني ؟؟ تمد لسانها مرة أخري قائلة : أنا الحياة وأنت الموت .الصديقة :
من هذه الغريبة التي تلتصق بأهدابي ؟ .. في اليوم التالي أسرعت أستنجد بصديقتي التي مارست طقوس التحليل النفسي لمدة فاقت عشرة سنوات ، أتحفتني بنظرية هدأت من روعي قليلاً ، وقالت : أنّ الانسان يولد وتولد معه المخاوف وتكبر وترافقه إلى القبر .اللذيذ في الموضوع تتابع أنه ، ومع التقدم في العمر ، يعتاد المرء على هذه المخاوف ، وتصبح معرفته بها مشابهه لمعرفته بجيبه ، فلا يعود بإمكانها تنغيص عيشته ، أما المؤسف في النظرية العجيبة أن الانسان لا يبلغ هذه المرحلة من المعرفة والتعارف على الذات إلا ببلوغه مراحل متقدمة جداً من العمر ، ويكون عندها الأمر ، ولى !!في بيروت :
فجأة تحولت إلى حلزونة متقوقعة في داخلها ، مصابة برعب الأشياء والناس ، تذكرت المعالجة النفسية في بيروت وهي تقول : هذه المرة إنه نوع من أنواع الخوف الاجتماعي ، وعلينا البحث عن أسبابه ، كانت هذه آخر جملة سمعتها من فم معالجتي قبل أن أتوقف عن الذهاب للجلسات .من أكون وكيف السبيل :
قررت أن أطلق أفكاري للعنان ، تفرح وتمرح على سجيتها ، تختار صوراً من الذاكرة ، صحيح أنني في الحاضر ولكنني أيضاً معلقه في الماضي الذي لا يمضى ، أنا كارثة متنقله على رجلين ، أنا الفتاة التي تمارس الهروب الدائم ، كارهه القيود والظلم ، كتلة التناقضات ، سطر أبيض وسطر أسود ، حتى ينتهي الدفتر .ذكريات الهروب :
كم كان عمري عندما هربت في المرة الأولى ؟ 11 عام ؟ شيء من هذا القبيل ، أنتم تزعجونني لا أريد قضاء عطلة الصيف عندكم ، وإذا أجبرتموني على أكل السبانخ فسأعود سيراً على الأقدام إلى بيت أهلي ، سخر مني زوج عمتي وقال : ستحتاجين ثلاثة أيام سيراً على الأقدام حتى الوصول ، وستجوعين وتتمنين فيهم طبقاً من السبانخ ولم تجدي ، وستأكلك العفاريت ليلاً ، وبعد نصف ساعة في الطريق الجبلي الخالي ، وجدته يلحق بي ، لاعناً أبي : اطلعي سأوصلك بنفسي لبيت أهلك ..العائلة :
أنا الطفلة التي سألوها : ماذا تفعلين عندما تكبرين ؟ أجبت : أريد أن أصعد على القمر ، أنا البنت التي كبرت في عائلة متواضعة ، طموحها غير المعلن ، تعليم البنت حتى المرحلة الثانوية بحد أقصى ، أما الجامعة فبعيدة المنال ، والبهدلة في التنقل بين الطرقات التي تربط بيروت بالجبل ليست من بين شيمها .أنا المتقدمة في المراهقة ، التي ينهال الوالد عليها بالضرب ، لأنها تسللت مساءً من دون علمه للنادي الرياضي المجاور ، لتشجع فريقها الرياضي المفضل .في النهاية تصالح مع النفس :
لا أعرف ، كل ما أعرفه أن الذي لا يحصل على حب وحنان أمه وأباه ، يشعر بأنه لا يستحق شيئاً في هذه الحياة ، فيعيش في خوف دائم من رفض الآخرين له ، لذا لا يقبل عليهم ، ويشعر بنقص عاطفي شبه دائم ، يجبره على الفشل في أمور حياته .استغرق الأمر سنوات طوال قبل أن أنتبه إلى أنني لست المسئولة عن كل تلك المعاناة بداخلي ، وعلى الرغم من أنني تخلصت الان من كل مشاعري السلبية ، مازالت أجد بعض صعوبة في الاتصال بالآخرين بشكل مستمر ، فمازلت أشعر بتلك الغريبة في داخلي ، مازال الماضي والذكريات بداخلي ..