وكأن السماء قد بدأت تنتشلها من تحت الأمواج فقد بدت ناطحات السحاب تطالعنا مرة أخرى وترتفع رويدًا رويدًا بعد أن كانت غارقة في عيوننا تحت سطح البحر لتبدو شامخة من خلف الأفق البعيد ، وكلمات ارتفعت وتضخمت أمامنا ازددنا نحن تقزم بجانبها فتشرئب أعناقنا من النظر لأعلى فتبدوا بسفينتنا ، التي صارت أصغر وأصغر كما غزال صغير يتلمس طريقة بين المرتفعات الشاهقة .أدركنا أخيرًا أننا قد وصلنا بسلامة الله إلى تلك الأسطورة المغسولة بمياه الأمطار طوال أيام السنة فخط الاستواء يمر بجوار أرض سنغافورة تمامًا .وفي سنغافورة لا تبدو الأشياء غريبة بقدر ما تبدو مدهشة وكثيرة لكنها منظمة على أحسن ما يكون فمنذ بداية خروجنا للشارع ، وقد وجدنا اللافتات تملأ المكان في ساحة إصلاح السفن الترسانة التي كنا نرسوا فيها وعلى بوابة الميناء المخصص لها ، والذي تجد أمامه مباشرة محطة الأتوبيس الأحمر ذي الدورين تمام كما يمكن أن تراه في لندن فكل شيء هنا أساسه إنجليزي .وسنغافورة نفسها صناعة إنجليزية صرفة من منتجات إنجليزية كثيرة تركتها بريطانيا في تلك المنطقة قبل ان تغادرها بلا رجعة لتترك خلفها هونج كونج وتايوان التي انتزعتها نزعًا من الصين وسنغافورة التي انتزعتها كذلك ماليزيا ولا أدري إن كان هذا خيرًا لتلك البلاد أم أن الاستعمار كله شر عمومًا .بدا لي أن سادة تلك البلاد والمسيطرين على معظم الاعمال فيها أوروبيون وظل الأسيويون يعملون لديهم أو على أحسن تقدير معهم ولهذا ترى اللمسة الأوروبية او الإنجليزية في سنغافورة وفي كل مظاهر الحياة حتى في وضع عجلة القيادة للسيارات التي وضعوها أيضا على اليمين ما كان سيعرضنا لحادث سير مؤكد ونحن نعبر الشارع أمام بوابة الميناء .والغريب دائمًا أعمى حتى لو كان بصيرًا ولكن لمن ينظر فقط على القادم من اليسار وليس على القادم من اليمين مثل السائق الذي صرخ فينا وكأننا هنود قادمون حديثًا إلى سنغافورة ، وإن كانت الهند ذاتها تضع عجلة قيادتها على اليمين وتعسًا لهؤلاء الإنجليز الذين أفسدوا العالم .وصل الأتوبيس في موعده كما كان مدونًا في الجدول المعلق على لوحه المحطة فدخلت مع باقي الركاب الذين وقفوا أمام ماكينة صرف التذاكر الموجودة داخل الأتوبيس نفسه وأمام باب الدخول مباشرة ووضع كل منهم دولارًا معدنيا واحدًا في الماكينة فخرجت له ورقة صغيرة مطبوعة وكانت هذه هي التذكرة من دون محصل .اكتشفت أنني لا أحمل إلا دولارات أمريكية ناهيك عن عدم حملي لأية عملات معدنية ولا يوجد محصل ولا يحزنون حتى أعطية دولارًا أمريكيًا ثم أسامحه في الباقي وهو الكسبان بالطبع ولم أدرى ماذا سأفعل وهل أصعد من دون تذكرة ؟ .فالواضح انه لا أحد يفتش على التذاكر هنا والناس مسلمة أمرها لله ويعتمدون على ضمير الركاب ولكني لم أكن أرغب في أول معرفة لي بالجميلة سنغافورة أن يكون مصيري هو التطويق في باصاتها ذات الدورين .لكن جاء الحل من أحد الزملاء من محترفي السفر إذا كان يحمل في جيبه دولارات سنغافورية ومن المعدن كذلك وقرر أن يقرضنا وينقذنا بمنتهى الكرم الحاتمي ، ولكن سرعان ما تحول كرمه هذا الحاتمي لبرود إنجليزي عندما جمعها منا دولارًا دولارًا في الباص ، ولكن دولارات أمريكية من جيوبنا عوضًا عن الدولار السنغافوري الأقل في القيمة ليحصل هو على فرق مناسب بين الكرم السنغافوري والكرامة الأمريكية .صعدت إلى الدور العلوي في الأتوبيس حتى أشاهد كل صغيرة وكبيرة في البلد وسرحت في جمالها إلا أن فقت على صوت أجش ، كان الصوت لعملاق هندي مفتول العضلات أشبه بجبار سنج خصم أميتاب باتشان اللدود في أكثر من فيلم هندي .ويبدو أن كثيرًا من الهنود بنفس هذه القطعية السجية الباتشانية وتحت ضغط هذا العملاق ، اكتشفت الحقيقة المرة وهي أنني في غمرة مشاهداتي للشوارع والمصانع كنت قد طبقت التذكرة التي كانت مثل ورقة البفرة ، ولم اكتف بذلك بل وألقيتها من الشباك أيضًا وكان الحل أن أقول الحقيقة ، وبكل صراحة لهذا الهندي وليكن بعد ذلك ما يكون وإذا لم يكن من التطويق بد فمن العار أن يطوقنا الهنود ونحن جبناء .ابتسم الرجل ابتسامة مطمئنة على الرغم من انه عرف انني لا احمل تذكرة وقال لي: ألم تأخذ تذكرة من على باب الباص ؟ ، فقلت له: بالفعل أخذتها ولكني ألقيتها من النافذة ، وكنت على وشك أن أحلف له برحمة المرحوم المهاتما غاندي بذلك قال لي : عدم قطعة لتذكرة مخالفة وإلقاؤك للتذكرة من النافذة يعتبر مخالفة أخرى وعليك ان تختار بينهما ، فوقعت في حيص بيص ، فقلت له : إذا قلت لك أنها طارت من النافذة فهذا يعني أني قطعتها ، قال لي: نعم ، فقلت له : وطيارتها من النافذة كان بسبب الهواء وليس بسببي انا .فضحك الرجل بطريقة لطيفة وطلب مني النزول لأسفل وقطع تذكرة أخرى من الماكينة ، كنت سعيدًا من مرونة هذا الرجل خصوصا ان غرامة المخالفة الواحدة ربما تتعدى 500 دولار سنغافوري ولكن كان الأكثر سعادة مني بالطبع هو زميلي حاملي الدولارات السنغافورية المعدنية الذي سميته شيلوك ذلك اليهودي المرابي في مسرحية تاجر البندقية وأنا متأكد بالطبع من عدم معرفته من هو شيلوك فقد كان من الواضح أن أخره في القراءة هو روايات للجيب وروائع أدهم صبري أما وليم شكسبير فلا يعني بالنسبة له ألا كونه أحد برامج التليفزيون المملة .