في البيت المتداعي ، المركون في أحد جوانب الشارع العام تبدو الحياة ساكنة ، أو شبه متوقفة ، على الرغم من الضجيج للمارة والسيارات ، فبابه السوداء ، وبصمات الزمن الماضي ، وكآبة البناء كلها تجثم على شرفاته المتداعية ، وحديقته القاحلة ، إلا من بقايا أدغال ونباتات شوكية ، تشي بالصمت الموحش والإهمال .بيت هادئ :
نادرا ما تتحرك الحياة في شرايين البيت ، فهو لا يعرف غير الهدوء والصمت الجليل ودبيب أقدام هادئة ، تسير في جنباته لنساء غربيات عن المدينة ، يحاولن أن يبنين لهن حياة خاصة داخل حجراته ، تتفق مع حاجاتهن اليومية البسيطة ، فيتحول البيت إلى غرف نظيفة أنيقة .الأمان والسكون ونساء أشبه بالملائكة :
حاولن جهد الامكان أن يجعلن من البيت ملاذًا يقضين فيه ، شطرا من العمر ، كن جميعًا بعمر الزهور الناضجة التي قدمت الكثير من تربيتها الأصلية ، فأينعت وردا ذا رائحة عطرة ذكية تسر الناظر ، وكان الصمت الرزين يخيم على جنبات البيت إلا في أوقات قليلة يصدح فيها صوت القرآن الكريم .أو ربما موسيقى هادئة تتماوج في جنبات الدار وتبعث خدرًا لذيذًا في الأجساد المتعبة طوال اليوم في العمل ، هكذا هو البيت صومعة هادئة ، أو معبد منسي تسكنه مجموعة من النساء أشبه بالملائكة حسنا ورقة ، بيت له قدسيته وسكونه وجلاله .هجوم سافر على المنزل الآمن :
فجأة ، وفي صباح يوم غريب ، عج البيت بالضجيج وراحت أقدام رجال شتى تدق أرضيته ، وتدور في حجراته ، فيما انتشرت الأنباء عبر مواسير الأفواه البشرية ، تتحدث عن سرقة البيت الآمن المستقر ، وراحت أفواج من الشرطة والإدارة تدقق وتناقش وتستنتج .الطبيبة في بلاد الغربة :
أما النساء فقد كن ثلاثًا ، إحداهن كُسرت باب غرفتها ، وتبعثرت أمتعتها فوقفت مندهشة متوردة الوجنتين ، فيما ظهرت التجعدات على جبينها الغاضب وانتابتها مشاعر ما بين القلق والخوف والتحسب ، الأفكار تدور في رأسها المتعب في ذلك الصباح اللعين .لماذا ؟ .. لماذا أنا ؟ .. تسأل نفسها ، تسأل الآخرين ، أسئلة تدور في ذهنها ، ولكن الاجابة تبقى مجهولة ، وفي الصدر غصة ، فينمو بداخلها خيط من الشك والخوف : تبحث في سجل تعاملها اليومي ، فلا تجد غير الإخلاص ومحبة الناس والمرضى ، تتذكر : ربما يكون هو ، ذلك الذي قالت له : زوجتك في خطر ، لا يوجد ما يفيدها ، في المستشفى نقص ، وقبل أن تكمل .. انفجر غاضبًا وتركها ، والصمت الحزين الوقور يجلل وجهها الغاضب .الصيدلانية في بلاد الغربة :
أما الأخرى ارتدت ربطتها البيضاء والذهول يلفها برفق ، كمن فقدت شيئًا عزيزًا ، لم تستطيع أن تتكلم ، لم تجد تفسيرًا لهذا الغريب المجهول الملعون ، الذي دخل البيت ، تحدث نفسها : ربما كان هو ، ذلك الرجل الطاعن في السن ، حين قالت له : لا يوجد هذا الدواء ، ثارت ثائرته في شباك الصيدلية وكاد يبصق عليها .المحامية في بلاد الغربة :
أما الثالثة فقد ظلت واجمة مجللة بالصمت والهدوء ، ولكنك تحس بخوفها المقدس ، وتحس بضربات قلبها الأبيض الناصع النقي ، وحركة شفتيها الراعشتين ، تعبيرًا عن القلق المشروع والخوف من هذا الذي دنس قدسية مكانهن ، تجفل .. إنه هو ، ذلك الرجل الذي طالبته بورقة من الشرطة لشكها أنه هو السبب في ضرب زوجته ، ثارت ثائرته وتكلم بلهجة غير مفهومة ، وصراخ طويل ممدود .البحث عن النوم بهدوء وسكينة :
الزمن الملعون يمضي ببطء في تلك اللحظات ، والشكوك من الأسئلة تدور والضجيج يخفت ، ولم يبق سوى الرؤوس الثلاثة لنساء موزعات بين أسئلة وأفكار ، قالت الأولى : انه مجنون ، قالت الثانية : إنه طفل لا يعي ماذا يفعل ، قالت الثالثة : إنه غبي ، حتمًا غبي ، عند المساء ظلت الأفكار تتناوب فتطرد النوم ، وعند الصباح ، ودعن المدينة ، إلى حيث الأهل تاركين وراؤهم كل شيء ، إنهن يبحثن عن النوم بهدوء وسكينة .