قصة من إبداع الكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا ، ولد في روما وعاش فيها كل حياته ، (28 نوفمبر1907م _ 26سبتمبر1990 م) ، وهو من أشهر الكتاب الايطاليين ، ويكتب أيضًا باللغتين الانجليزية والفرنسيه ، ولد الكاتب لعائلة ثرية من الطبقة الوسطى ، ولكنه لم يتم دراسته لأنه أصيب بمرض السل مما أقعده في الفراش لمدة خمس سنوات ، وتلك الفترة ساعدته على حب المطالعه ، كتب أول مؤلفاته عام 1929م ، ثم بدأ حياته المهنية ككاتب في مجلة 900 ، حيث كتب أول قصصه القصيرة .بداية القصة :
نحو منتصف بعد ظهر كل يوم ، كان الموظف العجوز المتقاعد ميلون ، يخرج من منزله بصحبة زوجته آرمينيا ، وابنته جيوفانا ، وكانت زوجته بدينة ومتقدمة في العمر ، وابنته هذيلة البنية وقد أصبحت الآن مسنة ، ومثل المخبولة .كان آل ميلون الثلاثة ، هم الذين يسكنون ساحة ديلاليبرتا ، يصعدون ببطء على خطى آرمينيا السمينة ، يتجولون في شارع كولاديريانزو متأملين واجهات المخازن الواحدة تلو الأخرى ، ثم يغيرون الرصيف ومن ثم يعودون ، وهم يتابعون واجهات المحلات بنفس الدقة ، كل ذلك كان يستغرق منهم قرابة ساعتين ، وذلك الوقت الكافي حتى يحين ميعاد وجبة العشاء ، كان آل ميلون الثلاثة فقراء جدًا ، لا يدخلون قاعات سينما أو مقهى منذ زمن طويل ، فكان التنزه هو تسلية حياتهم الوحيدة .المخزن الجديد:
وفي يوم من الأيام ، وبعد أن خرجوا في الساعة المعتادة ، وصعدوا شارع كولاديريانزو ، لفت انتباه أفراد العائلة الثلاثة ، مخزن جديد وكأنه فتح بطريقة سحرية ، فحتى المكان كان غير مجهز بالأمس ، وقد تعسر عليهم معرفة نوعية البضاعة الموجودة بداخله ، فبشكل إرادي شكلوا بأجسادهم نصف دائرة وهم يقتربون من زجاج المخزن الخارجي ، ثم رأوا الآن البضاعة بوضوح كانت البضاعة هي السعادة .السعادة:
كان جميع أفراد عائلة ميلون الثلاثة مثل جميع الناس في المنطقة ، قد سمعوا دائمًا الحديث عن هذه السلعة ، ولم يروها قط ، كانوا يتناقشون حولها هنا وهناك وكأنها شيء نادر جدًا ، وكان البعض يصفها بالخيالية يشككون بوجودها الفعلي على أرض الواقع .كانت بعض المجلات تنشر مقالات طويلة في بعض الأحيان عن السعادة ، فكانوا يقولون إن السعادة في الولايات المتحدة إن لم تكن عامة فهي على الأقل سهلة المنال ، ولكن كما يعلم الجميع أميركا بلاد بعيدة ، والصحفيين يتخيلون أشياء كثيرة ، وعلى ما يبدو أنه كانت توجد سعادة بالفعل في الأزمان الغابرة ، لكن ميلون مثله مثل الطاعنين في السن الآن فلا يتذكر أنه رآها قط .وها هو المتجر الآن بالفعل ، لكنهم مازالوا لا يصدقون ، ويظنون أنه متجر للأحذية أو الملابس ، وهذا يفسر سر دهشة عائلة ميلون الثلاثة المسمرين إلى الأرض ، أمام ذلك المتجر الغريب .متجر السعادة:
والحق يقال أن هذا المتجر كان يحسن عرض بضاعته في الواجهة جيدًا ، فكانت الواجهة مصممة من طراز عام 1900م ، وكانت لافتاته واكمالاته مصنوعة من المعدن المطلي بالنيكل ، وقد كانت طاولته على الطراز الحديث ، وبداخله بائعان أو ثلاثة من الشبان أنقي الملبس ، يجذبون بظهورهم فقط الزبون الأكثر ترددًا .وتظهر في الواجهات السعادة مثل بيض عيد الفصح وهي معروضة حسب كبرها ، وتوافق جميع الميزانيات ، فيوجد منها الصغير والوسط والضخم ، ويمكن أن تكون مزيفة ، موضوعة لتعبر عن السعادة فقط ، وكل منهم مدون عليه سعره حسب حجمه .مفهوم السعادة من وجهات نظر مختلفة :
فقال ميلون : هذا اذا ،لم أكن أتوقع ذلك أبداً ، فقالت له الفتاة ببراءة : لماذا يا أبي فرد عليها العجوز بانزعاج قائلًا : لأنه ومنذ سنوات عديدة يقال لنا ، أنه لا توجد سعادة في ايطاليا ، وأنها تنقصنا وأن استيرادها يكلف كثيرًا ، وها هم فجأة يفتحون متجرًا لبيعها ! ، فقالت الفتاة : قد يكونون اكتشفوا منجمًا .فرد عليها بحده : ولكن أين ؟ وكيف ؟ ألم يقولوا لنا أن باطن الأرض في ايطاليا لا يحتوي على نفط ولا حديد ولا فحم ولا سعادة ، ثم ينتهي بنا الأمر باكتشاف أشياء ، لقد تخيلت لوهلة أن يأتي يوما يقولون فيه أن فلان كان يتنزه في جبال كادور ، ثم اكتشف سعادة من نوع فاخر !!! كلًا كلًا ، إنها بضاعة أجنبية .هنا تدخلت الأم بهدوء قائلة : حسنا أين المشكلة ، فهناك لديهم الكثير من السعادة ، وهنا لا نملك شيئًا منها ، فلما لا يستوردونها ، أي الغرابة !! ، رفع العجوز كتفيه بازدراء ثم قال : كلها حجج غير معقولة ، هل تفهمين جيدًا معنى استيراد ، إنه صرف نقود كثيرة ، نقود تكفينا لاستيراد القمح ، فالبلد تتدور جوعاً ، وما نملكه من دولارات نقوم بانفاقه على شراء هذه البضاعة ! هذه السعادة !!؟ولفتت الأم انتباهه قائلة : ولكننا بحاجة إلى السعادة ، فأجابها العجوز : هذا شيء غير ضروري ، فقبل كل شيء لابد أن نفكر أولًا في الغذاء و في الخبر ، وبعد ذلك السعادة ، ولكن على أي حال هذا بلد اللامنطق فأولاً السعادة وبعد ذلك الخبز ، فقالت له زوجته الحليمة وقد لاحظت غضبه : أنت تغضب سريعًا ، أنت لا تحتاج الى السعادة ولكن الجميع ليسو مثلك .فقال ابنته مترددة : أنا مثلاً ، فقاطعها الأب مهدداً قائلًا : أنت مثلاً ، فتابعت الفتاة بيأس : أنا مثلاً سأشتري واحدة صغيرة منها ، لكي أتعرف علي مذاقها فقط ، فرد الأب قائلًا بنبرة حادة : هيا بنا .غضب ولوم وعتاب بسبب السعادة :
وانصرفا الثلاثة من أمام المتجر ، ولكن قد كان الأب العجوز منزعجاً ، فقال الأب لابنته : لم أكن أتوقع منك حقا هذا يا جيوفانا ، فردت الابنة : لماذا يا أبي ؟ ، قال العجوز : لأنها بضاعة من السوق السوداء ، من محدثي النعمة ، وأصحاب الملايين .إن موظف في الدولة لم يطمح إلى أية سعادة ، وما يجب أن يفعل ، فعندما تقولين إنك تريدين شراء سعادة ، تثبتين على الأقل عدم ادراكك ، فغشت الدموع وجه ابنته ، فقالت الأم انك تقضي معظم الوقت في تأنيبها ، وهي شابة لا تملك أي شيء في الحياة ، فأين الغرابة إن أرادت تذوق السعادة .التشكيك في السعادة :
كانوا قد وصلوا إلى ساحة روزيرش مينتو ، ولكن خلاف لعادتهم أراد العجوز هذه المرة العودة على الرصيف ذاته ، وعندما وصلوا أمام المخزن توقف ونظر طويلًا إلى الواجهة ، وقال : هل تعرفان ماذا أعتقد أنها مزيفة .فرو عليه باندهاش : ماذا تقول !! ، فرد عليهم : إنه بالأمس فقط قرأت في الجريدة ، أن سعادة صغيرة كهذه في أمريكا ، أقول في أميركا تكلف عدة مئات من الدولارات ، فكيف هذا الثمن الباهظ بالإضافة إلى ثمن النقل ، وتقدم بهذا الثمن المنخفض ، إنها محلية الصنع ، لا يوجد أدنى شك في ذلك ، وجازفت الأم وقالت : لكن الناس سوف يشترونها ! ، فرد قائلًا : أن من سيشتريها سيكتشف ذلك بعد العودة إلى منازلهم وخلال عدة ايام وسيعرفون أنهم غشاشون .قهر مكتوم:
وتابعو نزهتهم ، ولكن جيوفانا كانت تبتلع دموعها ، حينما اكتشفت أن السعادة حتى المزيفة ستعجبها .