لقد تكرّرت قصة سيّدنا نوح عليه السّلام مع قومه في سور عديدة ومختلفة في القرآن الكريم، وباستخدام أساليب متنوّعة، فجاءت مفصّلة تماماً في سورة هود، كما جاء الحديث عنها كذلك في كلّ من سورة الأعراف، وسورة يونس، وسورة المؤمنون، وسورة الشّعراء، وسورة العنكبوت، وسورة الصّافات، وسورة القمر بشيء من التفصيل، كما جاءت إشارة إليها في كلّ من سورة الأنبياء، وسورة الفرقان، وسورة الذّاريات، كما أنّ هناك سورةً كاملةً في القرآن الكريم سمّيت باسم سيّدنا نوح عليه السّلام، وهي تحكي لنا ما دار بين نوح وقومه، وما قاله لقومه، وما ردّوا به عليه.
وأمّا حاصل قصة سيّدنا نوح عليه السّلام مع قومه، فهو أنّه عليه السّلام قد بعثه الله سبحانه وتعالى إلى قوم كانوا يعبدون الأصنام، ويتخذون لها أسماءً مختلفةً ما أنزل الله بها من سلطان، فدعاهم نوح عليه السّلام بكلّ الطرق والسّبل، ترغيباً وترهيباً إلى الله تعالى، ليتركوا ما كانوا يعبدون من دون الله من الأوثان، ويعبدوا الله وحده لا شريك له.
وقد أخبرهم نوح عليه السّلام أنّه لا يرجو من وراء دعوته إلى الله سبحانه وتعالى أيّ أجر، بل أنّه يبتغي كلّ الأجر من الله وحده، قال سبحانه وتعالى:" وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على ربّ العالمين " الشعراء/109، فما هو إلا عامل لله، ومبلِّغ لرسالة ربّه، غير أنّ قومه لم يستجيبوا له، وقد وصفوا ما دعاهم إليه بالضّلال، فقالوا:" إنّا لنراك في ضلال مبين "، الأعراف/60، وليس ذلك فحسب، بل أنّهم قد أصرّوا على عنادهم، وكفرهم، وشركهم بالله وحده، قال سبحانه وتعالى:" وقالوا لا تذرنّ آلهتكم ولا تذرنّ ودّاً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً "، نوح/23.
ولقد دعا سيّدنا نوح عليه السّلام قومه ما يقارب الألف سنة، غير أنّ قومه لم يستجيبوا لدعوته ولا لندائه، ولم يلبوا ما أمرهم به، حتى أخبره الله سبحانه وتعالى في قوله:" وأوحي إلى نوح أنّه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون "، هود/36، وعندما لم ينفع معهم أيّ أسلوب من أساليب الدّعوة كافّةً أغرقهم الله سبحانه وتعالى، وجعل منهم عبرةً لمن كان معتبراً، كما قال سبحانه وتعالى:" إنّهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين "، الأنبياء/77.
1
أبناء نوح عليه السلام
لقد اشتهر ذكر ثلاثة من أبناء نوح عليه السّلام عند أهل التاريخ والأخبار، وهم كلّ من سام، وحام، ويافث، وهم مذكورون في تلك الكتب على هذا التّرتيب، ومن غير المعروف إن كان ترتيبهم هذا على حسب السنّ أو الفضل أو سوى ذلك، فكلّ ذلك من الأمور المحتملة، وكلّ النّاس الذين يعيشون على وجه الأرض اليوم من سائر أجناس بني آدم ينسبون إلى هؤلاء الثّلاثة، ومع هؤلاء الثّلاثة المذكورين هناك ابن رابع اسمه يام أو كنعان، وقد كان كافراً، وهو الذي أغرقه الله سبحانه وتعالى مع الكافرين.
وقد اختلفت الرّوايات حول اسم ابن سيّدنا نوح عليه السّلام الذي لم يسلم وكان من المغرقين، فقال ابن كثير في تفسيره:" هذا هو الابن الرابع واسمه يام، وكان كافرا... "، ومثل ذلك في تفسير الطبري، وفي تفسير البيضاوي أنّ اسمه كنعان، وقال القرطبي:" ونادى نوح ابنه: قيل كان كافراً، واسمه كنعان، وقيل يام ".
2
العبرة من قصة نوح
هناك مجموعة من العبر والفوائد المستفادة من قصّة نوح عليه السّلام، ومنها:
1
أن يصبر المسلم على أداء التكاليف التي كلفه الله سبحانه وتعالى بها، وأن يصبر على أذى كلّ من السّفهاء والجهلاء، وأنّ يصبر في مواجهة الأعداء، ويصبر على كلّ صعاب الحياة كافّةً، وقد قال بعض العلماء في هذا الصّدد:" بعث الله نوحاً وهو في سنّ الأربعين، ومكث يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وعاش بعد غرق قومه ستّين سنةً، والمقصود بذكر هذه المدّة الطويلة التي قضاها نوح مع قومه تسلية الرّسول - صلّى الله عليه وسلّم - عما يلاقيه من مشاق الدعوة، وتثبيته على الحق المبين ".
أنّ المسلم العاقل الحكيم هو من يتلقى شبهات الخصم وأكاذيبه بقلب سليم، وعقل كبير، ثمّ يقوم بالردّ عليها بما يدحضها من قواعدها.
أنّ المسلم يجب أن يتحلى بالشّجاعة عند إبداء رأيه، وأن يكون غيوراً على الحقّ، وأن يفهم المعترضين على دعوته أنّه سيمضي قدماً في طريقه، لا يلوي على شيء، ولا يثنيه عن ذلك وعد أو وعيد.
أنّ المسلم العاقل، والدّاعي الحكيم هو من يسوق لغيره النّصائح والإرشادات بطرق وأساليب متنوعة ومختلفة، مرّةً عن طريق الترغيب والترهيب، ومرّةً عن طريق دعوتهم إلى التّأمل والتدبّر في مخلوقات الله، وأحياناً أخرى عن طريق بيان مظاهر نعم الله على عباده.
أنّه على المسلم أن يعفّ عمّا في أيدي النّاس، وأن لا يتطلع إلى ما في أيديهم من أموال، وأن يستخفّ بكلّ ما يملكون من حطام ومتاع الدّنيا الزّائل، وأن يؤثر ما عند الله سبحانه وتعالى على ما عندهم، وقد دلّ على ذلك مصارحة نوح لقومه بأنّه لا يريد أجراً منهم على ما يدعوهم إليه، وأنّ ما يدعوهم إليه فيه صلاحهم في الدّنيا و سعادتهم في الأخرى.
أن يعلم المسلم أنّ العاقبة للمتقين المؤمنين، قال تعالى:" فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون "، الشعراء/119، وأنّ العدوان على الظالمين:" ثمّ أغرقنا بعد الباقين "، الشّعراء/120.
أن يعلم المسلم أنّ القرابة والنّسب، وكذلك الجاه والمال والسّلطان، لا يوجد لها أيّ اعتبار في ميزان الشّرع، بل العبرة بدايةً ونهايةً للعمل الصّالح، وتصحيح العلاقة مع الخالق، وغير ذلك لا يجدي عند الله شيئاً.