بعث الله عزوجل الأنبياء هدى ورحمة للناس، فهم من يهدونهم إلى الطريق الحق المستقيم، وهم من أناروا الظلمة التي كانت تأسر عقول البشر فأخرجوهم من الظلمات إلى النور، ودلّوهم على إله هذا الكون الواحد الأحد الله عزّ وجل، ليؤمنوا به ويعبدوه، وتصبح قلوبهم منيرة بنوره جل وعلا، وابتدأت سلسلة بعث الأنبياء على هذه الأرض من نزول سيدنا آدم عليه السلام عليها، وانتهاءً ببعث سيدنا محمد عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، وكل نبي من أنبياء الله كان له قصة محمّلة بالمآسي والمعاناة مع قومه، وسيدنا نوح عليه السلام هو أحد الأنبياء الذين عانوا مع أقوامهم.
أرسل الله عزوجل سيدنا نوح عليه السلام إلى قومه الذين كانوا عاكفين على عبادة الأصنام والأوثان، التي زينها لهم الشيطان وأقنعهم بأنها وسيلة أخرى للعبادة، حتّى يثنيهم عن الطريق الصحيح ويخرجهم عن عبادة الله تعالى، ودعا سيدنا نوح عليه السلام قومه 950 عاماً من عمره للإيمان بالله عزوجل وحده، ولترك عبادة الأصنام والأوثان، لكن لم يكن من قومه إلّا أن كفروا برسالته وقابلوها بالسخريّة والاستهزاء، وأهانوه بشتّى أنواع الكلام والتصرفات، وقد احتمل عليه السلام ذلك من قومه 950 عام، ولم يؤمن معه سوى فئة قليلة من الناس، ولمعاناته الشديدة مع قومه اعتبر سيدنا نوح من الأنبياء أولي العزم من الرسل عليهم الصلاة والسلام، وعندما ضاقت به الأرض بما رحبت ولم يستطع أن يحتمل أكثر من ذلك من قومه دعا الله عزوجل أن يخلصّه من هذا العذاب الذي يعيشه، واستجاب الله تعالى لدعائه وأمره ببناء سفينة، لتكون ملاذاً له وللمؤمنين من قومه من الطوفان الذي سيجتاح المكان بأمر من الله عزوجل بسبب كفر قومه.
وعندما جاء أمر الله عزوجل ببناء السفينة، انصاع سيدنا نوح لأمره، وبدأ ببناء السفينة، فكانت السفينة كبيرة إلى حد ما وذلك لأن الله عزوجل أمره أن يضع بها من آمن معه، ومن كل نوع من الحيوانات زوجين اثنين، فكان كل ما مرّ أحد من قومه ورآه يصنع السفينة ويجهزها سخر منه، لكنهم لم يعلموا أنّ هذه السفينة هي المنقذ للبشرية في ذلك الوقت، وعندما أتم سيدنا نوح بناء السفينة وتجهيزها، جاء أمر الله عزوجل للسماء أن تمطر مطراً غزيراً وللماء أن يخرج من الأرض، ليلتقي الماء من الأرض، مع ماء المطر ويشكّل طوفاناً عظيماً يجتاح المكان ويغرق كل من على الأرض إلا من كان مع سيدنا نوح عليه السلام في السفينة، كما قال عزوجل: " وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ".
ودعا سيدنا نوح ابنه إلى الصعود معه إلى السفينة، لكنه أبى ذلك وفضل اللجوء إلى الجبل الذي لم يستطع حمايته من الغرق، ونجد قصة سيدنا نوح عليه السلام مع قومه ملخصة في الآيات الكريمة& " كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَطِيعُونِ، قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ، قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ، وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ،إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِين، قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ، قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ، فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَان أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ".
وعندما انتهى الطوفان العظيم استقرّت السفينة على جبل يدعى جبل الجودي بأمر من الله عزوجل لهذا الجبل بأن يعمل على إرساء السفينة عليه، كما قال جل وعلا في كتابه الكريم: " وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ"، وجبل الجودي هو جبل يقع في تركيا وبالتحديد في جنوب شرق تركيا في محافظة شرناق، أي على مقربةٍ من الحدود العراقيّة السوريّة، ويعتبر هذا الجبل من أعلى القمم الموجودة في تركيا.