في يوم من الايام و قد كنت امتهن مهنة التغسيل و التكفين و ما الى ذلك و قد جاءني في جنازة شاب متوفي يبلغ من العمر حوالي 40 عاماً مع مجموعة من اقاربه و اصدقاؤه . لفت نظري شاب في مثل عمر المتوفي تقريباً و كان يبكي بكاءاً حاراً و شديداً دموعه لا تتوقف ابداً . شاركني التغسيل و كانت دموعه لا تتوقف تجري بلا انقطاع وهو بين حنين ونشيج وبكاء رهيب يحاول كتمانه .
وكنت احاول ان اهدأ من روعه و اطمنه و اقول له ان الله رحيم به فكان يردد باستمرار انا لله و انا اليه راجعون لا حول ولا قوة الا بالله . بكاؤه كان يفقدني تركيزي فصحت به ان الله ارحم باخيك منك لا تبك ولا تحزن فهو الان امام الغفور الرحيم عليك بالصبر . التفت الي الشاب قائلاً هو ليس اخي . تفاجئت كثيراً !
ليس اخيه و لكن ما كل هذا البكاء و النحيب فهو في مثل عمره ولا يمكن ان يكون ابنه او والده . من يكون هذا الشاب المتوفي حتى يبكيه هذا الشاب بهذه الحرقة و المرارة وهو ليس اخيه . اجاب الشاب فوراً على جميع تساؤلاتي التي لم اتجرأ على سؤالها : نعم انه ليس باخي الحقيقي و لكن والله انه اعز الي من اخي . سكتت تماماً مستمعاً اليه بينما استطرد هو في حديثة : انه صديق طفولتي اعرفه منذ المدرسة الابتدائية تجمعنا العديد من الذكريات الجميلة و الحزينة ايضاً زميل دراستي و رفيق دربي كنا لا نفترق ابداً نجلس دائماً في نفس الصف و حتى في ساحة المدرسة لا نكاد نفارق بعضنا لحظات قليلة ثم نعود لنلتقي .
تخرجنا من المدرسة الثانوية و دخلنا الى نفس الجامعة معاً و التحقنا بعمل واحد في مكان واحد . تزوجنا اختين و سكنا في شقتين متقابلتين رزقني الله بابن و ابنة و هو ايضاً كذلك . عشنا سوياً في الافراح و الاحزان و في جميع لحظات حياتنا . كنت معه في ولادة اول ابن له و كان معي دائماً . كانت الافراح تزيد عندما نكون معاً و تتلاشى الاحزان بمجرد ان نجتمع .
و اليوم … و لم يكمل و قد اجهش بالبكاء . احتضنته و اختلطت دموعنا , لا والله لا يوجد في الدنيا مثلكما فقد تذكرت اخي ابن ابي و هو بعيد عني لا نكاد نلتقي . انتهينا من التغسيل و قد احسست انه سينهار اخذ يقبل جبهته ووجهه ويبلله بدموعه و انا ادعوا له بالصبر . حتى امسكت به حتى نخرجه الى صلاة الجنازة و اجتمع اهله و اقاربه و صلينا على المتوفي صلاة الجنازة و عند القبر صمم على دخول القبر
معه فهو لم يفارقه لحظه طوال حياته و لن يفارقه حتى توديعه . و اخد يبكي و يدعوا له حتى انصرف الجميع و بقي هو وحيداً .
انصرفت الى المنزل و بداخلي حزن و الم لا يعلم قدره الا الله عز وجل . و في اليوم التالي في صلاة العصر ذهبت الى المسجد فاذا بي ارى صلاة جنازة وقفنا لنصلي على المتوفي و قد رايت الوالد المكلوم و احسست انه مألوف جداً بالنسبة لي فانا متاكد اني قد شاهدته من قبل . انا متاكد انني اعرف هذا الوجه جيداً . اقتربت منه فاخذ يبكي و يقول يا شيخ ابني كان بالامس في جنازة صديقه و غسله كان يبكي عليه و يقلبه و يناول الكفن . اليوم …. و لم يكمل حديثه و اخذ في بكاء شديد تتمزق له القلوب
الان فقط تذكرت . انه والد الشاب الذي كان معي بالامس في الغسل . رددت مناهراً : كيف مات هذا الشاب ؟ قال الاب انه دخل الى غرفته و عرضت عليه زوجته الطعام فرفض و لم يتناول اي شيء و ظل يبكي طوال الليل حتى جاءت زوجته لتوقظه ظناً منها انه نائم فوجدته … و لم يكمل و استمر في البكاء .
إنا لله وإنا إليه راجعون ، اصبر واحتسب ، اسأل الله أن يجمعه مع رفيق دربه في الجنة ، يوم ينادي العزيز الجبار عز وجل : أين المتحابين فيِّ اليوم اظلهم في ظلي يوم لاظل إلا ظلي .
و بعد الانتهاء من الصلاة ذهبنا الى القبر لدفنه و كانت المفاجأة فقد كان القبر المجاور لقبر صديقة فارغاً . استعجبت كثيراً في نفسي فقد مات ليلة كاملة و منتصف نهار و لم تات اي جنازة ؟! و هذا شيء نادر الحدوث . أنزلناه في قبره ، وضعت يدي على الجدار الذي يفصل بينهما ، وانا اردد ها انتم ذا اجتمعتم في الدنيا على طاعة الله و حبة جمعتكم الدنيا صغاراً و كباراً و اليوم جمعك القبر امواتاً .
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(سبعة يظلهم الله في ظلّه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين
أخرجه البخاري ومسلم .