لم قلت عالمة ؟

---

كانت سومر جالسة على عتبة باب بيت مهجور، مطل على شاطئ البحر، وهي تحل مسائل فقهية في باب البيع، كان صوت تصادم الموج ونعيق النورس منسجماً مع تدفق أفكارها، وكانت الرياح تهب حاملة معها رائحة البحر المنعش، وتمس وجه سومر بلطف فتحرك خمارها الأسود كأنها تحاول أخذه معها، ولم يعكر صفو هذا الجو البديع إلا ثلاث صبيان أخذو يلعبون قربها، فقل تركيزها وشردت أفكارها، وعلى غفلة منها خطفت الرياح أوراقها، وطارت بهم ناحية البحر، فصاحت فيه سومر كأنه كائن يسمعها : انتظر !
التفت إليها الصبيان وهمهم منظرها وهي تحاول استعادة ما غصبته منها الرياح، فأسرع اثنان منهم لمساعدتها وانطلق الثالث، والذي كان أحسنهم هيئة وأنظفهم ثوباً، لملاحقة ما هرب إلى البحر .
ومع أن بعض الأوراق تلفت، إلا أن أكثرها قد سلم، فقالت لهم سومر شاكرة : بارك الله لكم سعيكم ورفعكم على رؤوس أقوامكم، من الفتية ؟

رد عليها أوسطهم، وهو الذي بللته مياه البحر : أنا علي، وهذا صديقي بدر، والثالث ابن عمه طارق، من قرية الضب .
فقالت سومر : أنا سومر من بلدة الزهر، تبعد عن قريتكم اثني عشر ميلاً .

فسألها طارق والذي كان أكبرهم : أمن طلاب العلم أنت ؟

فأجابته بابتسامتها المعهودة : بل أرجو أن أكون منهم .

سأل بدر في عجب : ألست تدرسين ؟

أردفت سومر : بلى، لكن طالب العلم اسم لا يقع على كل من حمل الدفتر، بل ينبغي أن يصدق في الطلب حتى يكون طالباً للعلم .
أومأ لها الصبيان ثم أكملت : والمرء لا يزكي نفسه فيجزم بصدقها حتى يبشر بالقبول، وإنما نطلقه نحن على بعضنا مجازاً .

سألها علي : من مدرسة خير أمة ؟

فردت على سؤاله بسؤال ضاحكة : لم، أتريد أن توصلني ؟
أجابها علي : لا إنما يدرِّس والدي هناك، فأحببت أن أعرف .
تفاجأت سومر بذلك وسألته : لذلك بدى لي وجهك مألوفاً، أنت ابن الشيخ يوسف، بينكما شبه لا ينكر .

ترأست مخايل السعادة وجه علي، الذي سرعان ما قال : نعم أنا أشبهه كثيراً والجميع يقول ذلك .

أجابته وهي تسير بهم نحو مكان جلوسها : والدك شيخ معروف، لا يخفى اسمه ورسمه على القريب والبعيد .
وافقها علي، بينما أخذ صاحبيه يسخران من طرف أنفه الذي رفعه عالياً بفخر واعتزاز، لم تتوقع سومر أن يجلس علي قربها، ويرفض عرض صاحبيه بالذهاب واللعب معها، مصراً البقاء مع سومر بجمود وعناد .

بعد أن تأكدت سومر من أنها أخفت أوراقها بعيداً عن أنظار الرياح سألته : ما بالك لا تريد الذهاب معهما ؟
فقال بدر وقد لاحت له بارقة أمل : نعم أخبريه أن يأتي معنا .
فأجابها علي وهو ينظر بغضب إلى صاحبه : قررت أنني سأجلس مع العالمة سومر وأطلب العلم .
سألته سومر في تعجب واستنكار، وقد شغلها كلامه عن أصل حديثهما : لم قلت عالمة ؟
فأجابها علي : الطلاب الذين نراهم في هذه المنطقة دائماً يطلبون منا أن نطلق عليهم ألقاباً قبل نطق أسمائهم .
صحح له طارق : لكن فقط القليل منهم لا يهتمون سواء باللقب أو بدونه .

زاد اندهاش سومر، وظهر الإنزعاج في وجهها وهي تقول : سبحان الله ! طلاب علم ويطلبون مثل ذلك ؟!

أطرقت سومر برأسها، ونظر الصبيان إليها ينتظرون منها ما تقطع به الصمت، حتى تبينوا من تحرك شفتيها أنها تستغفر، فبادر علي بالسؤال : ما الأمر ؟
أجابته وهي تحاول أن تعدل تعبيرات وجهها : الأمر جلل، اسمع يا علي، أريدك أن تبلغ أباك بما بلغتني به، وإن استطعت أتيك غداً إن شاء الله لتعلمني برده .
شعر علي بدم الرجولة يسري في جسده، وبأنه المسؤول عن إتمام مهمة ذي شأن، فقال من فوره ولهيب الحماس في عينيه : نعم !
صاح علي وقد تذكر شيئاً : يا ربي ستغرب الشمس ولم أحل فروضي !
فهتف بدر : صحيح، علينا العودة بسرعة قبل أن يحل الليل .

قالت سومر مبتسمة : أنا كذلك سأعود الآن، أتريدون أن أوصلكم إلى بيوتكم ؟
فوافق علي من فوره، لا لحاجة إلى مرافق لكن رغبة في صحبة سومر .
وصلت سومر إلى المدرسة وهي تجر قدميها من التعب، فقد ذهبت حتى قرية الضب مشياً على الأقدام لإيصال بدر وطارق ثم منها عودة إلى المدرسة، رآها الحارس لكنه لم يكلمها، فدخلت المدرسة، وكانت الأجواء هادئة لا تسمع سوى صوت الحشرات، وهمسات بعض الطلاب الذي ما زالوا مستيقظين، صعدت إلى حجرتها ثم أزالت خمارها ورداءها وفتحت النافذة، فقد كان الجو حاراً، جلست على فراشها وأخذت رغم التعب تحل المسائل التي تأخرت عن إكمالها، أسندت رأسها على الوسادة بعد محاولات لمقاومة النوم وتنهدت سائلة الله العون ..