عماد هذا الشاب الثلاثيني ، الذي لم يحظ بعائلة أبدًا ، وكأنه مقدر له أن يعيش وحيدًا طيلة عمره ، فقد تركته خطيبته بعد مرور ستة أعوام ، لم يستطع عماد خلالها أن يتقدم قيد أنملة ، ليبق وحيدًا منذ ذلك الحين ، في حين تراه وتمنحه أكثر من أربعين عامًا ، يعمل موظفًا حكوميًا ، بمقابل زهيد ، لا يسد رمق عائلة بالطبع ، ومن ثم اختار ألا يتسبب في شقاء أحدهم برفقته . في أحد الأيام ، انطلق عماد نحو عمله وكان في غاية التوتر ، وأثناء ركوبه الحافلة ، لمح شخصًا يجلس بالمقعد المقابل له ، فنظر له طويلاً وسأله هل هناك خطب ما ؟ فأجابه عماد أرغب بالتحدث معك ، فسأله الرجل بدهشة في أي أمر ، فأجابه عماد الأمر يطول سرده ، فقال له الرجل على الرحب والسعة ، لنلتقي عقب نصف الساعة في الحديقة العامة ، فأومأ عماد برأسه موافقًا ، وافترقا . جلسا سويًا وقال عماد ، في منزل سيدة وطفليها كلهم متوفون ، وتدعي أنها زوجتي وأنهم أطفالي ، انتبه الرجل وسأله هل تتعاطى شيء ما ، فأجابه عماد لا شيء ، وكنت مدرك أنه لا أحد سوف يصدقني ، ولكنني بحاجة للحديث مع أي شخص ، أشعر بأنك سوف تتفهم الموقف ، فأومأ الرجل وقال له قصّ علي ما حدث. قال له عماد أتاني للعمل أحد أصدقائي القدامى ، وعقب انتهائي من عملي خرجت برفقته تناولنا فنجانين من القهوة ، ثم طلب مني أن أذهب برفقته نحو القرية ، فهو يرغب في إلقاء التحية على أهله ، وسوف نعود سريعًا ، وأقنعني بأن سيارته جيدة ، فالأمر لن يستغرق سوى ثلاث ساعات فقط. توجهنا صوب القرية ، واستقبلنا أهل صديقي مصطفى ، استقبالاً حارًا ، وقدموا لنا من الخير كله ، ثم انصرفنا عقب مرور ساعتين ، لننطلق على الطريق ، فنشاهد أضواء متصاعدة من الترعة المجاورة للطريق ، فطلبت من مصطفي التوقف لننظر ما هناك ، كان مصطفى يرتجف رعبًا ، ولكنني بدوت ثابتًا مقارنة به .
قررنا أن نشمر ملابسنا ونهبط للترعة ، فبطارية السيارة لم تنفد بعد ، وقد يكون هناك أحياء بالداخل ، هبط كلانا ولمحنا باب السيارة مفتوح ، مما يعني أن أحدهم قد استطاع الخروج ، ولكن أين هو ؟ وقفنا إلى جوار الجثث ، سيدة تبدو في أواخر الثلاثينات من عمرها ، وطفلين ذكر وأنثى ، ظل مصطفى يبكي ويرتجف طويلاً ، ونحن لا ندري ما يمكننا فعله ، وقررنا في النهاية أن نحمل الجثث للمشفى بالمدينة ، وبسؤال مصطفى كيف سنضع الجثث الثلاث في السيارة ، أجبته بكل هدوء سوف نُجلسهم على المقعد الخلفي ! وصلنا إلى المشفى بعد أن أفرغ مصطفى كل ما بجسده من مياه ، عن طريق دموعه التي ذرفها طوال الطريق ، وجلس الضابط برفقتنا يسألنا أين وجدنا الجثث ، ومتى وغيرها من الأسئلة التي بدت ، وكأننا من قتلهم ، وبالفعل تم إرسال الجثث للتشريح لمعرفة كيفية الوفاة ، في حين طلبوا منا أن يخرج أحدنا برفقتهم ليدلهم أين وجدنا الجثث ، وبالطبع خرجت أنا لأن مصطفى لم يكن بحالة جيدة على الإطلاق . ذهبت برفقة الضباط والعساكر ، ووجدنا السيارة ، لأعود وقد أتى تقرير الطب الشرعي أنهم غرقى ، حمدنا المولى أننا لم نُتهم بقتلهم ، وطلبت من الضابط أن أحضر طقوس الدفن ، فأنا لا أعرفهم ولا أدر من ذويهم . عدت لمنزلي لأنام ، وإذا بي أسمع جلبة آتية من الصالة ، فخرجت لأفاجأ بالسيدة الميتة تجلس على أريكة منزلي ، والطفلين يجلسان على الأرض إلى جوارها ، وجميعهم يتطلعون لي! أي عبث هذا ، وفجأة قالت لي المرأة أنا زوجتك وهؤلاء أبناؤك ، ارتعبت بالطبع لأغلق باب غرفتي خلفي ، وارتدي ثيابي وأنطلق فارًا من المنزل ، من نافذة غرفتي . ظللت جالسًا على المقهى حتى حان موعد الرحيل ، فطلبت من المعلم إبراهيم صاحبها ، أن أبيت لديه ، بحجة أنني قد نسيت المفتاح ، ولن أجد نجارًا يساعدني الآن ، فضحك الرجل وسمح لي بالمبيت ، لأستيقظ وأذهب إلى عملي ، ثم أعرج على مصطفى لأروي له ما حدث . بالطبع لم يصدقني مصطفي ، وإن كان يشك بأنني صادق ، فجاء معي إلى المنزل ، ولكننا لم نجدهم ، وبعد أن انصرف مصطفى نظرًا للحاق بموعد طائرته ، رأيتهم مرة أخرى ، عيونهم خاوية من الحياة ، وينظرون لي وكأنهم يرغبون في الحديث . اتسعت عينا الرجل الذي أحدثه بشأن قصتي رعبًا ، وقال لي وهل ظللت بالمنزل برفقتهم؟ فأجبته لا خرجت من المنزل حين قابلتك في الحافلة ، وشعرت أنني بحاجة لرواية ما حدث ، فطلب منه الرجل أن يذهب معه إلى المنزل ، ووافقه عماد الذي أقنع نفسه ، أن ما يراه هو مجرد وهم ، وبالفعل ذهبا إلى المنزل ، ليفاجأ عماد بأن الرجل يراهم جميعًا . وقد تحولت عينا المرأة إلى اللون الأحمر القاني ، ونبت لها نابين ، وهاجمت الرجل ، الذي اتسعت عيناه ، وهي تقبض بيديها على عنقه ، وتصرخ لماذا فعلت ذلك؟ فأجابها الرجل حاولت ألا أنحرف بسيارتي ، ولكنني لم أقصد أن أقتلكم ، قالت له المرأة إن لم تكن تقصد فمن إذا ؟ ليبدأ عماد في الصراخ والتدخل لإنقاذ الرجل . تجمع جيران عماد ، وبدؤوا يطأطئن برؤوسهم ، والبعض الآخر ينظر إليه بدهشة ، فنظر لهم عماد وقال لهم ، عذرًا فأنا أحاول ، الإصلاح بين هذا الرجل وأسرته ، فنظر له صاحب المنزل طويلاً ، وقال له أستاذ عماد أنت بالمنزل وحدك ، ولا أحد غيرك وقد أتينا لأنك تتحدث إلى نفسك ، منذ رأيناك تسير بالشارع ، فهلع عماد ليخبرهم أنهم يقفون أمامهم الآن ، ولكن هل يجدي ذلك الآن ، بعد أن تم اصطحابه لمصحة الأمراض العقلية ؟