ما بين اختلاق الوقائع وصدقها تقبع حقائق هامة ، وتهدر أرواح وسنوات من العمر ، ففي الخيال قد يبدو الواقع أيسر بكثير مما هو عليه في الخيال ؛ الذي يجمح بأفكاره بين طيات الكلمات ، ولكن في واقع وريثة عرش قشتالة الملكة خوانا الأولى ، كان الواقع أجمح وأصعب ، فما بين إدعاء الجنون والجنون الفعلي عاشت ملكة مفخمة كعبده ذليلة حبيسة لوالدها وابنها من بعده !من هي خوانا الأولى :
هي الابنة الثالثة للملكان الكاثوليكيان إيزابيلا الأولى وفرناندو الثاني ، ووالدة شارل الخامس الذي ترآس الإمبراطورية الرومانية المقدسة ، ولد الملكة خوانا تراستامارا عام 1479م بطليطلة ، عرفت من صغرها بالتمرد ورفض الطقوس الكاثوليكية التي كان يتبعها والداها ، لذا عوملت منذ صغرها معاملة شديدة وتم إهمالها .زواج خوانا من فيليب الوسيم :
حرص والديها على اتمام زواجها من رجل تتوافق معه مصالحهما السياسية ، فزوجها من فليب الوسيم وهو فيليب هابسبورغ ابن الامبراطور ماكسيمليان الأول ، وقد لقب بذلك الاسم لوسامته العالية فتزوجت منه خوانا وهي ابنة ستة عشر عامًا ثم انتقلت إلى بروكسل مع زوجها عام 1496م ، وهناك أنجبت ابنتها الأولى إليونورا .وما بين عشية وضحاها صارت خوانا هي الوريث الشرعي لعرش قشتالة بعد وفاة شقيقها وشقيقتها الأكبر سنًا ، وولي عهدها ميغل ، لم يطب العيش لخوانا رغم ذلك بسبب خيانات فيلب المتكررة ، وكأي امرأة يخونها زوجها شعرت بالإحباط واليأس ، خاصة أنها كانت تحب زوجها كثيرًا ، فكان الزواج من الناحية الاجتماعية والسياسية زواجًا ناجحًا ، أما في الحقيقة كان بداخلة مرارة وألم.محاولة إقصاء خوانا :
بعد وفاة أمها الملكة إيزابيلا الأولى صار أبيها فرناندو وصيًا على العرش إلا أنه طمع بأكثر من ذلك ، فاستغل مشاعر الغيرة والحقد التي نمت بقلب ابنته من خيانات فيليب وحاول أن يلصق بها الجنون .في البداية لم يرق الأمر لفيليب فاتفق معه فرناندو على أن يترك له عرش قشتالة مقابل أن يوقع فيليب معادة تقضي بجنون خوانا ، الأمر الذي يقصيها من الحكم ، بعد أن وافق فيليب تراجع عن قراره واتهم فرناندو باحتجاز خوانا رغم أحقيتها هي بالحكم ، ولكن وفاة فرناندو الفجائية عام 1506م كانت القشة التي قصمت ظهر البعير ، ففاجعة خوانا كانت أكثر بكثير من طمع والدها في قشتالة .اتهام خوانا بالجنون حزنًا على زوجها :
حزنت خوانا على زوجها أشد الحزن ، فكان فراقه ورحيله عنها صدمة كبرى ، وللمرة الثانية يستغل فرناندو ذلك ، ويروج لجنون ابنته ويسرد القصص حول الغرائب التي تفعلها ، وانتشرت الإشاعات في المملكة بسرعة النار في الهشيم .الأمر الذي ساعد فرناندو على احتجاز خوانا منذ وفاة زوجها حتى عام 1520م ، أي نحو أربعة عشر عامًا قضتهم منفية بقلعة توردسيلاس لا تعرف شيئًا عن العالم ، حتى وفاة فرناندو عام 1516م لم تعلم بها ، فلم يتغير أمر سجنها حتى بعد اعتلاء ابنها كارلوس لعرش أسبانيا .أسر خوانا :
فلم تنعم خوانا بالحرية رغم ذلك ، ولاقت مختلف سبل العذاب على يد القائمين على حراستها ، والذين أجبروها على أداء الطقوس الكاثوليكية التي لم تكن تحبها ، عاشت خوانا حياة مريرة منذ صغرها وحتى موتها في عام 1555م بحضور فرانسيسكو دي بورخا الذي أقر بسلامة قواه العقلية .حقيقة جنون خوانا :
لم يكن إدعاء الجنون سوى حيلة ماكرة من الملك فرناندو الطامع بحكم قشتالة التي لم تسنح له الفرصة بحكمها في حياة زوجته إيزابيلا ، وقد دلل على ذلك بعض المؤرخون مستندين إلى خطابها الذي نددت فيه بإساءة والدها لها ، واحتجازها بعيدًا عن أبنائها ، وعدم توليها الحكم حتى بعد موت والدها ، لتصير بذلك الضحية الأكبر في حكم قشتالة .