الطريق إلى استراليا ليس بعيدًا عن هنا ، فأستراليا وجنوب شرقي آسيا مرتبطان ارتباطاً جغرافياً ، وتبدو استراليا كقارة على هيئة جزيرة كبيرة ، وربما تكون قد انفصلت عن أرخبيل جزر جنوب آسيا ، في حقبة ما بعد حقب التاريخ الجيولوجي للأرض ، وعلى كل حال كنت قد قرأت أن العالم كله كان قارة واحدة ، ثم انفصلت القارات واحدة تلو الأخرى ..استراليا سابقاً :
وإلى هنا سوف أتوقف عن الفتاوى فيما لا أعلم ، والحقيقة أن ما كنت أعلمه عن أستراليا ، سابقاً كان بعيداً جداً عن كل ما بدأت أتخيله الآن ، فأستراليا ذلك المجهول ، الذي لم نكن نعرف عنه شيئاً ، إلا أنها كانت مصدراً مهما لجنود الامبراطورية البريطانية التي غربت عنها الشمس ، وكانوا يرسلونهم في مصر قديماً أيام الاحتلال البريطاني ، هذا بجانب أنها مصدر مهما للبغال الاسترالية ، التي نضرب بها المثل في الضخامة .العزلة والعلم :
والحقيقة أن ليست البغال وحدها هي الضخمة في هذا البلد ، فكل شيء في هذه القارة ضخم بالفعل ، ربما بفعل العزلة عن العالم ، أو هكذا كان يتخيل معظمنا ، فلا توجد بقعة واحدة حاليا بمعزل عن العالم ، فما يربط العالم حالياً هو العلم ، والدول التي لا تشارك في مسيرة العلم ، والتقدم البشري هي التي تعيش بمعزل عن العالم حقاً ، وهذا ما لايجب أن نطلقه على القارة الاسترالية ، التي تعتبر نفسها محمية طبيعية ومتحفاً مفتوحاً للتاريخ الطبيعي ، فلا يوجد لأستراليا أي تاريخ حضاري بشري كما نعلم .ممنوع الجراثيم :
ومن هذا الموضوع ، بدأت أولى بشائر الجزيرة الاسترالية التي لا تسمح لأي غريب بأن يطأ أرضها دون أن تتأكد من أنه خالٍ تماماً من كل الأمراض والأوبئة ، ومن كل الجراثيم والبكتيريا ، فالسلطة هناك للطبيعة ، والحق في الحياة هو حق أصيل وتحميه الدولة بجميع أجهزتها ، من القادمين من المطارات والموانئ البحرية .وربما من نسمات الهواء القادمة إليهم بدون تأشيرة دخول ، وكذلك مياه البحار القادمة إليهم من بحار أخرى لا يسيطرون عليها ، وهكذا أتت الأوامر من هناك ، فغير مسموح بالدخول لأي سفينة إلى الموانئ الاسترالية وهي تحمل في بطنها ماءاً غير الماء الاسترالي ، الطاهر الشريف الخالي من الجراثيم .النقل البحري واستراليا :
ولتوضيح تلك النقطة لغير المختصين في السفن والنقل البحري ، فإن سفن البضائع عادة ما تملأ خزانات خاصة فيها بمياه البحر ، تسمى خزانات الاتزان Ballast tanks ، لتزيد من غاطسها وهي فارغة من الحمولة ، حتى يتحسن اتزانها في البحر العالي ، خصوصاً أن الشرق الاسترالي الذي يطل على المحيط الهندي يعج بالأعاصير والدوامات البحرية القاسية .لكن الأوامر الاسترالية السامية لجميع السفن ، كانت بالتخلص من أي مياه تحت تعبئتها من مناطق خارج الحدود البحرية الاسترالية ، وقبل الوصول لاستراليا بفترة كافية ، ولأن السفن لا يمكنها الابحار في تلك المناطق من دون تعبئة تلك المياه ، فتلجأ لتفريغ الخزانات في مياهها وهي خارج المياه الاسترالية .ثم تعيد تعبئة الخزانات مرة أخرى ، قبل الوصول الى المياه الاسترالية ، حيث تقوم السلطات هناك بدورها بأخذ عينة من تلك المياه فور الوصول ، وقبل الرسو على أرصفة المواني ، ليتم تحليلها في معامل خاصة ، للتأكد من خلوها من الجراثيم والبكتيريا ، لأن هذه المياه سوف يتم ضخها مرة أخرى على أرصفة الموانئ قبل شحن السفن بعد ذلك ، لاستبدال وزنها على السفينة بوزن البضاعة .المياه المخزنة :
ولأن الدولة الاسترالية لا تضمن جودة أي مياه خارجية ، سوى مياه بحارها النظيفة فقط ، فقد وضعت تلك القواعد التي تطبقها بمنتهى الصرامة على كل السفن التي سترسو في موانئها ، ولمن لا يدرك خطورة المياه المخزنة في خزانات السفن ، فهي مصدر مثالي لنقل الأمراض والأوبئة .حتى لو لم تكن منتشرة في الدول التي أتت منها ، فيكفي أن نقول بأن تلك المياه قد يتم تخزينها في الخزانات لشهر او ربما شهور ، فتكون بيئة صالحة لنمو البكتيريا والجراثيم ، وكذلك لنقل يرقات الحشرات والطحالب التي تؤثر على التركيب البيولوجي في البيئة المنتقلة إليها .التفاني في الفحص :
تم تغيير مياه السفينة على كل حال ، وكذلك غسيلها من فوق ومن تحت ، ولم يكن يتبقى إلا أن يتم تطهير أجسام البحارة أنفسهم ، وربما قص شعورهم وتقليم أظافرهم ، ونقعهم في براميل ديتول ، فموعد اجراءات الحجر الصحي قد اقترب ، فكل شيء هنا بمقدار وحسب أوامر أصحاب الدار .الذين لا يتهاونون أبدأً في حماية دارهم من أي شيء دخيل ضار ، على الرغم من قسوة البحر وشدته ، الذي منعنا من النوم لمدة ثلاثة أيام متصلة ، في اعصار دائم في الجنوب الاسترالي يسمى Bright ، ينتج عن تلاقي تيارات المحيط الهندي مع المحيط المتجمد الجنوبي ، ليجتمعا معاً في خليج Great Australian Bight ، الذي أرهقنا بالفعل كأن لم نرهق من قبل ..