بخار أحمر يلون جذوع الأشجار بسحر مخيف ، قادم من زمن سحيق ، رائحة احتراق لحم بشري ونكهة طازجة للخشب المغسول بالمطر والرصاص ، تقدم نحو آخر الأشجار وحك جلده ، ولوهلة امتلأ بدغدغة الحياة في عروقه عندما اسند رأسه إلى جسم صلب فتركه ينفلت إلى آخر ما يستطيع ، وهو يحاول تثبيت دماغه الرجراج في رأسه .ماتوا جميعا ولم يبق منهم أحد :
هل من أحد سوف يقتله ؟ تساءل وفكرة الموت لمعت في رأسه ، وملأته بالامتعاض انتفض وتلفت نحو اليمين ونحو اليسار ، وكانت أصوات الأوراق تخرمش أذنيه : ماتوا جميعًا .. ولم يبق منهم أحد .المشهد الحقيقي :
لم يصدق ما يفعل ، عندما كان يجلس على الأريكة في منزله وينتقل من محطة تلفزيونية إلى أخرى هربًا من مناظر الرعب والدمار ، الذي كان يصاب بنوبات الغثيان والإحساس بالخوف مما يراه ، هو الآن ضمن المشهد الحقيقي ويفعل ما لا يفعله الكثير من الجنود ، لو تراه زوجته لن تصدق عينيها ، لطالما اتهمته بالخوف وبعدم التماسك أمام مناظر الحرب ، تخيلها تشاهده اللحظة على إحدى المحطات فأحس بعريه .أفاق من الكابوس :
صوت ما : إنه العدو سأموت الآن ! الجملة الوحيدة التي رافقته من بداية الحرب وحتى اليوم ، في كل مرة يلفظها ، ويواجه الموت يقتل ما يصادفه أمامه من بشر ليبعد شبحها عنه ، بعد ذلك اعتاد القتل والتحم بسلاحه الأسود كرئتيه ، إصبعه على الزناد ، وبحركة خاطفة استدار نحو الخلف وبدأ إطلاق النار ، ولم يتوقف إلا بعد لحظات عندما أفاق من كابوسه أمام كائن صغير شبيه الأرنب ، ضحك من خوفه ، وأعجب بحرصه على نفسه، لابد من القيام بحركة جديدة ، لكن ما هي ! لا يدري.قشرة دم :
عليه الإعفاء للحظات ليتسنى له الخروج من الغابة ، جمع حوله كومة من الأوراق الجافة والأغصان اليابسة ثم حشر نفسه بين جذعين ضخمين وغمر نفسه بالأوراق والأغصان ، تكور واستعد للدخول في النوم ، أغمض عينيه في محاولة لتهدئة الروح والجسد ، لكنه ما أن أطبق جفونه حتى فوجئ بصعوبة إغماض عينه اليسرى ، وكأن جفنه ملتصق بالحاجب ، حاول أن يحك عينيه ، اصطدم إصبعه بشيء يابس فوق عينيه حاول انتزاعه بهدوء لكنه لم يفلح ، شد عليه ، آلمته عينيه ، ثم وضعه في كفه قشرة حمراء يابسة !القرية والاقتحام :
عندما نظر إليها تذكر عيني العجوز التي ترجته ألا يقتلها ، هي جزء من دمها وربما دماغها المتناثر الذي فجره برشاشه ، عندما اقتحم الجنود القرية ، كانت الأوامر قد وصلتهم بإبادتها ، دخلوا البيوت ، بيتًا بيتًا ،ولم يجدوا أي رجل عسكري بين القرويين ، كانوا فلاحين يختبئون في بيوتهم خوفًا ، من غارات الطيران التي تقصفهم بين يوم وآخر ، لم يتوقعوا أن طيورًا ستخرج من الأرض ليلاً وتحصدهم !نيران ودماء :
فوجئوا بنيران تنشر دمائهم وأعضائهم الممزقة ، تتركهم مجالاً حيويًا للديدان ، البيت الوحيد الذي لم يدخله الجنود كان غرفة صغيرة تبعد عن القرية مسافة نصف كيلومتر ، وعلى الرغم من أنه بدا مهجورًا إلا أن رغبة خفية بالقضاء على كل كائن يشعر بوجوده دفعته للركض تجاهه ، دفع الباب برجله ، الغرفة مظلمة وموحشة .كان هناك عينان مذعورتان لعجوز مشلولة هما من يثتا الرعب فيه ، أدار ظهره وتراجع نحو الوراء ، عينان مذعورتان تتوسلان البقاء في ليل قرية ينوء بالدم والصراخ ، الأمر لم يستغرق الثانية ، رشاشه مصوب نحو تلكما العينين ، أطلق عدة طلقات وهرب بسرعة ، تنهد بارتياح ولحق بأصدقائه في الغابة ، ثم فجأة صار وحيدًا ، ربما أخطأ الطريق ولا رصاص أمامه يدله على اتجاه أصدقائه ، همس : لماذا قتلتها ؟الأعداء :
نظر إلى قطعة الدم اليابسة في يده واستغرب كيف يسأل نفسه الآن هذا السؤال ، كانت عجوزًا ستموت عاجلاً أم آجلاً مشلولة الأطراف حوّلها في لحظة إلى كتلة لحم ممزق ، بالكاد سأل نفسه حتى سمع صوتًا من الجهة اليمنى ، انتفض وأطفئ النار ، كانت الأوراق من حوله تتحرك وجذوع الأغصان تستجيب لعاصفة قادمة ، بدأ جسده الارتعاش ، تفتحت مسام جلده نزل منها ماء مالح حرق جروحه المفروشة على جسمه ، صرخ بصوت عالي : الأعداء ، الأعداء .. حمل رشاشه ثم بدأ الدوران حول نفسه ، وبارتجاج أفقده الإحساس بأي شيء راح يطلق النار .