لا تعرف الإنسانية جنسية أو نوع فهي لا تحتاج سوى لقلب نقي ، كقلب تلك الشابة الأمريكية راشيل كوري التي ماتت منذ خمسة عشر عامًا أمام إحدى الجرافات الإسرائيلية ، أثناء دفاعها عن الفلسطينيين في غزة ، فلم تشفع لها جنسيتها ولا حتى كونها أنثى أمام هؤلاء القساة الغاصبين .ولدت راشيل كوري في 10 أبريل عام 1979م في أولمبيا بولاية واشنطن الأمريكية ، وكانت قد ذهبت إلى غزة كجزء من مهمتها الجامعية في السنة الأولى لربط بلدتها مع رفح في مشروع مدن شقيقة ، وأثناء وجودها هناك انضمت إلى بعض الناشطين في حركة التضامن الدولية التي كانت تهدف لمنع الجيش الإسرائيلي من هدم المنازل الفلسطينية .حيث كانت إسرائيل تدعي قيامها بأعمال الهدم للقضاء على أنفاق تهريب الأسلحة ، أما ما كشفته مجموعات حقوق الإنسان أن عمليات الهدم تلك كانت عقابًا جمعيًا للفلسطينيين .وبعد أقل من شهرين من وصول راشيل كوري إلى هناك وبالتحديد في 16 مارس 2003م قتلت خلال عملية عسكرية إسرائيلية بعد مواجهة استمرت ثلاث ساعات بين ثمانية نشطاء وبين الجنود الإسرائيليين الذين كانوا على متن جرافتين متجهتين لهدم المنازل الفلسطينية .وحسب ما ذكره أصدقائها النشطاء أنها وقفت أمام الجرافات لتجعل من نفسها درعًا بشريًا تحمي به منازل الفلسطينيين ، وهي ترتدي سترتها البرتقالية وتمسك بيدها مكبر للصوت حتى يسمعها الجنود الإسرائيليون ، اعتقادًا منها بأنها إن وقفت كحائط صد سيردتعون .ولكن ما حدث أن الجنود الإسرائيليين على متن الجرافة بعد أن ملوا من استماتتها على الدفاع عن منازل الفلسطينيين ، تقدموا بالجرافات فتعلقت راشيل بواحدة منهم وتمكنت من القفز بداخلها ، فعمد الجندي الإسرائيلي على إسقاط ما في الجرافة من رمل كانت بالطبع على رأسه راشيل ، فسقطت تحت الرمل وتقدم الجندي الإسرائيلي فدهسها تحت أقدام الجرافة ذهابًا وإيابًا .حتى تهشمت جمجمتها وعظامها وتساوى جسدها بالرمال ، وعلى الفور هرع أصدقائها لإخراج جثتها بصعوبة بالغة ، وحينما وصلت إلى المستشفي كانت قد فارقت الحياة تاركة خلفها أعظم قصة نضال من أجل نصرة القضية الفلسطينية .وبالطبع قضية مقتل راشيل كوري لم تحسم لصالحها كما هو الحال بالنسبة للقضية التي كانت تدافع عنها ، فقد خلص تحقيق الجيش الإسرائيلي إلى أن الوفاة كانت حادثًا ، وأن سائق الجرافة لم يستطع رؤية كوري بسبب محدودية الرؤية من موقعه ، ولكن منظمتي العفو الدولية وحقوق الإنسان انتقدت التحقيق .وفي عام 2005م قدم والدا كوري دعوى قضائية مدنية ضد دولة إسرائيل ، اتهموها فيها بعدم إجراء تحقيق كامل وموثوق في قضية مقتلها ، واتهموا فيها الجنود بأنهم قتلوها عمدًا ، فرفضت المحكمة الإسرائيلية تلك الدعوى في أغسطس2012م .وأيدت نتائج التحقيق العسكري الذي تم عام 2003م بأن كوري هي المسئولة عن موتها ، وفي محاولة جديدة للاستئناف ضد هذا الحكم في 2014 رفضت المحكمة الإسرائيلية العليا الاستئناف .ولكن رغم وفاة راشيل إلا أنها أحيت في القلوب قضية الفلسطينيين ، فقد أحبها الشعب الفلسطيني الذي جادت بنفسها من أجله ، فقد كانت تذهب للمخيمات وتساعد كل محتاج ، فعرفها الجميع كبارًا وصغارًا حتى أنها انتقدت سياسات رئيس دولتها التي كانت تقوي شوكة الاحتلال فأمن لها الفلسطينيون وجعلوها بينهم .ولم تقف المساعدات ودعوى نشر السلام بموت الناشطة راشيل كوري ذات الثلاثة وعشرين عامًا ، فقد أكمل والداها المسيرة من بعدها في محاولة لتعزيز السلام وإذكاء الوعي بمحنة الفلسطينيين من خلال تأسيسهم مؤسسة راشيل كوري من أجل السلام والعدل .كما ظلوا يترددون على قطاع غزة ورام الله وغيرها من المناطق المحتلة في محاولة منهم لإنعاش القضية ، كما أن الفلسطينيون أنفسهم لم ينسوا كوري فبعد وفاتها مباشرة انتشرت لافتات في رفح تشيد بنضالها حيث كتبت عليها عبارة تقول :
كانت راشيل مواطنة أمريكية بدماء فلسطينية
.وفي 2008م احتفل والداها بذكرى رحيلها بمدينة نابلس الفلسطينية ، في حضور أكثر من 150 فلسطيني وأجنبي لوضع نصب تذكاري لها في أحد الشوارع ، تخليدًا لذكراها وتنديدًا بمقتلها على يد المحتل .