كان يومًا تاريخيًا سيبقى في ذاكرة العالم حيًا مادامت الحياة ، يومًا أطلت فيه المملكة وهي مشرقة وساطعة ، لقد قرر الملك فيصل بن عبدالعزيز رحمة الله عليه أن يقطع النفط عن الدول الغربية وذلك كوسيلة للضغط عليهم أثناء حرب أكتوبر عام 1973م ؛ في إطار الرد عليهم لانحيازهم إلى إسرائيل ومن أجل دعم القضية الفلسطينية ، مما جعل الغرب يتخبط مترنحًا مما قد أصابه من قطع النفط وهو أمر تعجيزي غير متوقع .لقد كان الملك فيصل متزعمًا الدور العربي ، وكانت له جملة شهيرة وهي “الدم العربي أم النفط العربي” ، مما جعلهم يستخدمون البترول كسلاح لتحقيق الضغط على الولايات المتحدة الأمريكية ودول الغرب ، حيث قرر وزراء النفط العربي بعقد اجتماع يوم 17 أكتوبر من عام 1973م في الكويت ، وتم اتخاذ قرار بخفض نسبة النفط لدول الغرب إلى 5% ورفع أسعاره ، غير أن الرئيس الأمريكي قام بدعم إسرائيل بمبلغ 2.2 مليار دولار يوم 19، مما إلى اتخاذ كل من المملكة والإمارات والجزائر والمغرب والكويت والعراق وليبيا قرارًا بإعلان الحظر التام للنفط الذي تحصل عليه الولايات المتحدة ؛ مما تسبب لديهم في أزمة طاقة كبيرة .زيارة كيسنجر للملكة واستقباله داخل مخيم :
قام الملك فيصل باستقبال وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر الذي أتى مهرولًا برفقة مستشار الأمن القومي في أعقاب إعلان قطع النفط عن الغرب ، حيث تم الاستقبال داخل مخيم قصي خارج الرياض ، وهناك دخل كيسنجر منحنيًا من باب الخيمة ، وكانت الجلسة على الأرض وظهر الملك بكل عزة في منتصف المجلس ويحيطه أركان حكمه .وبدت القهوة العربية برائحتها العطرة تتلألأ أمام الجالسين ، وكأن الملك أراد أن يعطي درسًا واضحًا لكيسنجر بذلك الاستقبال ، وهو قدرتهم على العودة إلى العيش بالخيم والاستعانة بالجمال والاكتفاء بالتمر واللبن كطعام مثلما كان يعيش آباؤهم لآلاف السنين دون ملل أو كلل ، وقد قال الملك فيصل مقولته الشهيرة آنذاك وهي :”عشنا وعاش أجدادنا على التمر واللبن وسنعود لهما” ، وكان ذلك هو أبلغ رد على محاولات أمريكا بالضغط عليه من أجل العزوف عن قراره .رد الملك على طلب كيسنجر :
تحدث كيسنجر في مذكراته التي كتبها عن لقائه مع الملك فيصل عام 1973م ، حيث قال أن الملك استقبله متجهمًا ويبدو على وجهه الغضب وكأنه لا يريد أن يقابله ، فحاول كيسنجر أن يقوم باستفتاح حديثه بالمداعبة السياسية التي تخترق تلك القضية التي ذهب من أجلها فقال : “إن طائرتي تقف هامدة في المطار بسبب نفاذ الوقود ؛ فهل تأمرون جلالتكم بتموينها ؛ وأنا مستعد للدفع بالأسعار الحرة ؟ ، حينها لم يبتسم الملك بل رفع رأسه بكل عزة قائلًا :” وأنا رجل طاعن في السن وأمنيتي أن أصلي ركعتين في المسجد الأقصى قبل أن أموت ؛ فهل تساعدني على تحقيق هذه الأمنية؟”.موقف حاسم :
كان كيسنجر يسعى جاهدًا لثني الملك عن قراره بحظر النفط ، بينما كان موقف الملك ثابتًا متشددًا حيث قال له : “أنا متأكد أن إسرائيل ستنسحب في اللحظة نفسها التي تعلنون فيها أنكم لن تحموها ولن تدافعوا عنها ولن تدللوها ، ولن يكون هناك سلام واستقرار إذا لم تنسحب إسرائيل من الأراضي المحتلة ؛ وأن تتعهد الولايات المتحدة بأنها ستتخلى عن تأييد إسرائيل إذا لم تنفذ هذه الخطوات .. نحن نرى أن إسرائيل عبء على الأمريكيين ؛ إنها تكلفكم كثيرًا “.كان كيسنجر لازال يحاول إقناع الملك بالجهود التي بذلوها بعد حرب أكتوبر حيث قال أنهم أوقفوا إطلاق النار على الرغم من أن إسرائيل كانت تريد استمراره ، كما قام بكشف قرار سري أمريكي وهو وقف عمليات ارسال السلاح إلى إسرائيل ؛ وذلك على اعتبار أنه كان سيبدأ في منتصف نوفمبر لعام 1973م ، وأوضح أيضًا أنهم سيواجهون العديد من المشاكل في حال عدم قبول الملك المفاوضات وتراجعه عن قراره .بدا الملك فيصل صارمًا وجادًا حيث جاء رده على كيسنجر حاسمًا للموقف حيث قال له :”أقدر توضيحاتكم المعقولة ، لكني في الوقت نفسه آمل أن تقدروا موقفنا ، ما كان قرار وقف تصدير النفط قرارًا فرديًا من جانبنا ، ولكنه كان قرارًا عربيًا جماعيًا ، نحن جزء من العائلة العربية ، أريد منكم الالتزام بانسحاب إسرائيل ، لأذهب إلى إخواني العرب وأقول لهم ذلك ، وأريد بالإضافة إلى ذلك شيئين : أولًا السرعة وثانيًا إعلان موقفكم علنًا “.وقد أدرك كيسنجر أن لقائه بالملك غير مثمر ، حيث أنه لم يستطع أن يجعل الملك يتراجع عن قراره رغم كل محاولاته الذليلة من أجل أن يحل المشكلة المتفاقمة التي وقعوا فيها بسبب انقطاع النفط عنهم ، وهكذا عاد كيسنجر خائب الأمل إلى الولايات المتحدة ليكتب مذكراته التي ذكر فيها ذلك اللقاء التاريخي وكيف بدا الملك فيصل رجلًا واثقًا في نفسه معتزًا بعروبته .