اشتهرت أسرة المهلب بشجاعة فائقة ، وأصبحت هذه الصفة ملازمة لهم ، فإذا ذكرت الشجاعة وردت أسماء هذه الأسرة إلى جانبها ، فكان المهلب مثلاً أعلى لأبنائه ، فقد استطاع أن يقارع الخوارج الأزارفة سنوات طوالاً ، وسار على هذا المنوال أبناؤه من بعده من أشهر ما قاله المهلب بن أبي صفرة ، وصايته لابنه يزيد من بعده : يا بني ، استعقل الحاجب ، واستظرف الكاتب ، فإن حاجب الرجل وجهه وكاتبه لسانه .. وقوله أيضًا : عجبت لمن يشتري العبيد بماله ، ولا يشتري الأحرار بأفضاله .ولادته ونشأته :
هو المهلب بن أبي صفيرة العتكي ، و يقال الأزدي ، وكنيته أبا سعيد ، ولد العام الثامن من الهجرة ، يعود نسب المهلب بن أبي صفيرة إلى قبيلة الأزد اليمانية ، واختلفت الأقوال في اسم ابيه ، فيقال : ظالم بن سارق ، وقيل : ظالم بن سارف ، وقيل : قاطع بن سارق بن ظالم ، وقيل : غالب بن سارق .واختلفت الأقوال في صحبة والده للنبي فرويّ أنه أسلم في زمن النبي وأمره رسول الله أن يغير اسمه من ظالم إلى أبا صفرة ، ورويّ أنه وقومه ممن ارتدوا بعد وفاة الرسول فهزموا في حرب الردة ، ووقعوا في الأسر ولما عفا عنهم خليفة رسول الله قال لهم : انطلقوا إلى أي البلاد شئتم ، فأنتم قوم أحرار ، فخرجوا فنزلوا بالبصرة ، وروي أيضًا أنه كان أبو صفرة مسلمًا على عهد النبي ، ولم يفد عليه ، وإنما قدم هو وأبوه المدينة في زمن عمر، فلما وفد أبو صفرة على عُمر في عشرة من ولده ، أصغرهم المهلب ، قال له عمر: هذا سَيّدُ ولدك .أهم ملامح شخصية المهلب بن أبي صفرة :
تمتع المهلب بن أبي صفرة منذ صباه ونعومة أظافره ، بكثير من الصفات الحميدة ، والتي لا تتوفر في كثير من الرجال ، فكان يتمتع بالشجاعة والقدرة على القتال ، وكان له من الإدارة ما يجعله يخوض المعارك بكفاءة منقطعة النظير، وله من الكرم والحلم مواقف كثيرة ، وكان بليغًا حكيمًا في آرائه .المهلب بن أبي صفرة وبطولاته وغزواته :
شارك المهلب بن أبي صفرة في أولى معاركه ، مع والده ضمن جيش عبدالرحمن بن سمرة على مدينة سجستان في سنة 42من الهجرة ، وجاهد وغزا في بلاد الهند عام 44 من الهجرة .وقام المهلب بن أبي صفرة بدور مميز في انقاذ جيش المسلمون ، في غزوة جبل الأشل ، مع والي خرسان الحكم بن عمرو الغفاري ، حيث كاد الترك أن يفتكوا بجيوش المسلمين ، حينما حاصروهم بين الشعاب وكان المسلمين لم يعرفوا طرق كما يعرفها أهلها ، وقد ذكر الطبري في كتابه وقال : فتولّى المهلب الحرب ، ولم يزل المهلب يحتال، حتى أخذ عظيمًا من عظمائهم ، فقال له: اختر بين أن أقتلك ، وبين أن تخرجنا من هذا المضيق ، فنجا وغنموا غنيمة عظيمة .وشارك أيضا المهلب بن أبي صفرة في فتح سمرقند عام 56 من الهجرة ، مع سعيد بن عثمان بن عفان ، في والية معاوية بن أبي سفيان ، وقد أصيبت عين المهلب بن أبي صفرة في تلك الغزوة ، وقلعت عين طلحة بن عبدالله الخزاعي الملقب بطلحة الطلحات ، وقد قال المهلب في تلك الحادثة :لئن ذهبت عيني لقد بقيت نفسي .. وفيها بحمد الله عن تلك ما ينسي إذا جاء أمر الله أعيا خيولنا .. ولابد أن تعمى العيون لدى الرمس ..وشارك أيضًا المهلب مع والي خرسان سلم بن زياد ، لغزو بلاد الترك ، وحاصرهم حتى تم الصلح بينهم على مبلغ كبير من المال ، وتعتبر تلك الغزوة بداية أكبر انتصارات حققها المسلمون ، والتي استطاعوا بعدها من هزيمة ملكة بخاري خاتون في سمرقند ، وقد اضطرت للصلح بمبلغ مالي كبير مع المسلمون .وشارك المهلب أيضًا في زمن خلافة عبدالله بن الزبير ، في فتح البصرة وأبلي بلاءً حسناً مع عبدالله بن الزبير فولاه على الجزيرة ، وبرع في تنظيم الجيش الذي قاتل به الخوارج ، والذين يمتلكون مهارات قتالية عالية ولا يكترثون للموت ، وكانت حركتهم في ذلك الوقت تشكل خطرًا كبيرًا على الدولة ، فقد أثاروا الرعب في قلوب أهل البصرة ، وتمكن المهلب بن أبي صفرة بدهائه وذكائه من إيقاع الهزائم بهم ، وفرق جمعهم بعد معارك استمرت طيلة سنوات حتى قضى على شوكتهم تمامًا ، فلم يقاتلهم إنسان قط كان أشد عليهم ولا أغيظ لقلوبهم منه ، انتهت بمقتل عبيد الله بن الماحوز قائد الخوارج ، وعدد كبير من جنده وفر الباقون .وأقام المهلب في البصرة ، فعينه الحجاج بن يوسف الثقفي والياً على خراسان عام 77 من الهجرة ، وأمده بجيش وعهد إليه فتح مدن منطقة ما وراء النهر بوسط آسيا ، وقاتل الأتراك الذين تدفقوا غرباً من أواسط آسيا .حكمة المهلب وحلمه وكرم أخلاقه :
وروي أن المهلب مر يوماً بالبصرة ، فسمع رجلاً يتحدث عنه قائلاً : هذا الأعور قد ساد الناس ، ولو خرج إلى السوق لا يساوي أكثر من مئة درهم ، فبعث إليه المهلب بمئة درهم ، ورد عليه قائلاً : لو زدتنا في الثمن زدناك في العطية ، يعجبني في الرجل خصلتان أن أرى عقله زائداً على لسانه ، ولا أرى لسانه زائداً عن عقله.وروى أيضًا بعض الأدلة عن كرمه فيقال : بأن المهلب كان يوصي خدمه أن يقللوا من الماء ، ويكثروا من الطعام عندما يكون ليه ضيوف ، حتى لا يملأ الضيوف بطونهم بالماء ، وحتى يملأها من الطعام.وفاة المهلب بن أبي صفرة الأزدي :
ظلّ المهلب بن أبي صفرة والياً على خراسان ، حتى أدركته الوفاة هناك ، فتوفي في ذي الحجة سنة 83 من الهجرة، بقرية يقال لها زاغول.آراء الصحابة في المهلب بن أبي صفرة الأزدي :
قال عبد الله بن الزبير عن المهلب : هذا سيد أهل العراق .. وقال عنه قطري بن الفجاءة : المهلب من عرفتموه إن أخذتم بطرف ثوب أخذ بطرفه الآخر يمده إذا أرسلتموه ويرسله إذا مددتموه ، ولا يبدؤكم إلا أن تبدؤوه لا أن يرى فرصة فينتهزها فهو الليث المبر والثعلب الرواغ والبلاء المقيم ..وقال عنه أبو إسحاق السبيعي : لم أرى أميرًا أيمن نقيبة ، ولا أشجع لقاء ولا أبعد مما يكره ، ولا أقرب مما يحب من المهلب .. وأنشد فيه المغيرة بن حبنا قائلًا :أمسى العباد لعمرى لا غياث لهم .. إلا المهلب بعد الله والمطر ..
هذا يجود ويحمى عن ديارهم .. وذا يعيش به الأنعام والشجر.