يُروى عن القاضي يحيى بن أكثم ، أنه قال : كنت مع المأمون يومًا في بستان غصّ بالريحان ، فاجتزنا طرقه طريقًا ، وشققناه من أوله إلى آخره ، وكنت أنا مما يلي الشمس والمأمون مما يلي الظل .فكان يجذبني لكي أتحول إلى الظل ، ويكون هو في الشمس ، فأمتنع عن ذلك ، حتى بلغنا آخر البستان ، فلما رجعنا قال : يا يحيى ، والله لتكونن في مكاني ، ولأكونن في مكانك ، حتى آخذ نصيبي من الشمس كما أخذت نصيبك ، وتأخذ نصيبك من الظل كما أخذت نصيبي .فقلت : والله يا أمير المؤمنين ، لو قدرت أن أفديك بنفسي ، يوم الهول لفعلت ، فلم يزل بي حتى تحولت إلى الظل ، وتحول هو إلى الشمس ، ووضع يده على عاتقي ، وقال : بالله عليك إلا وضعت يدك على عاتقي ، مثل ما فعلت أنا ، فإنه لا خير في صحبة من لا ينصف ، وقد سمعت عن رسول الله صل الله عليه وسلم ، يقول : (لا يؤمن أحدكم ، حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه
صدق رسول الله صل الله عليه وسلم .مصاحبة الأخيار :
يحكى أنه رأى غلام صغير صندوقًا ، عند والدته فشمه ، فصادفه ذا رائحة ذكية ، فقال لأمه : يا والدتي العزيزة ، إن هذا الصندوق من الخشب وأراه ذا رائحة ذكية جميلة ، وعهدي بالخشب ألا يوجد فيه مثل هذه الرائحة .فقالت له والدته : يا ولدي ، إني قد وضعت وردًا في هذا الصندوق ، فاكتسب منه الرائحة الذكية ، وهكذا يا عزيزي ، إذ صاحبت أهل الصدق والأمانة ، وخالطت ذوي العفة والصيانة ، فأنت تستفيد منهم الأخلاق الفاضلة ، والصفات الكاملة .فيا ولدي ، اصحب الأخيار وارغب فيهم ، وجانب الأشرار وابتعد عنهم ، تعش سالمًا والقول فيك جميل ، فنبينا محمد صل الله عليه وسلم ، أوصانا وقال : (لا تصاحب إلا مؤمنًا ، ولا يأكل طعامك إلا تقي) ، فسمع كلامها وعمل به ، فكان من أهل الفضل والإحسان.هكذا تكون الصحبة :
وقد قال الله سبحانه وتعالى ، في كتابه الكريم ، بسم الله الرحمن الرحيم (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا
صدق الله العظيم ..الآية 21 من سوة الأحزاب .فيروي أن رسول الله صل الله عليه وسلم ، هو وعلى بن أبي طالب رضيّ الله عنه وأرضاه ، ورجل آخر من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين ، في سفر على بعير ، فكان إذا جاءت نوبته في المشي مشى ، فيعزمان عليه ألا يمشي ، فيأبى صلّ الله عليه وسلم ويقول : ما أنتم بأقدر مني على المشي ، وما أنا أغنى منكم عن أجر .لا يعرف الصديق إلا عند الشدة والضيق :
ويروى أيضًا أنه لما سار أبو بكر الصديق رضيّ الله عنه إلى الغار ، للهجرة من مكة ، فصار يمشي حينًا أمام النبي ، ويمشي مرة خلفه ، وآونة عن يمينه ، وأخرى عن يساره !. فقال له النبي صلّ الله عليه وسلم : ما هذا أبا بكر ، فقال : يا رسول الله ، أخاف أن يكون العدو أمامنا فأصده عنك ، أو من خلفنا فأرده عنك.فقال النبي صلّ الله عليه وسلم : لا تخف ، إن الله معنا .. ثم سارا حتى وصلا إلى الغار ، فأراد النبي عليه السلام أن يدخل ، فمنعه أبو بكر ، وقال : لا تدخل حتى أفتش الغار ، فدخل رضيّ الله عنه ، وصار يمس الحيطان بيده في الظلمة ، خوفًا من أن يكون فيها شيء مؤذ ، ثم قال للنبي عليه الصلاة والسلام : أفديك بمالي وبنفسي وبأبي وأمي يا رسول الله ، وهكذا تكون الصحبة ويكون الإخلاص فيها .