سأحدثكم عن حبي في أيام شبابي منذ نصف قرن مضى ومالي لا أعيد تلك الصفحات وأنا أرى هذا الشباب الجديد سابحًا في عالم بعيد عن الخيال والشعر ، فهو في زمن أزمات وضيق فمن حقه ذلك فقد سدت في وجهه أبواب الأمل ونشرت على خطواته ظلام اليأس فلم يأمن على المستقبل ولم يطمئن للغد ، ومنذ قرن مضى كان العهد عهد خيال وكان للنساء في أفكارنا وتصوراتنا مقام غير مقامهن في هذه الأيام قصة لكاتب موريس ودناي Maurice Denis أحد كتاب القصة القصيرة الفرنسيين تتميز بالأسلوب الحالم والخيالي .القصة :
عرفت انجيل فكانت يوم عرفتها فتاة في الثامنة عشرة ولكنها جمعت نضوج النساء ودل وضعها على أن لها ماضيًا ما حاولت أن أسألها عنه وكانت تعمل في أحد محال الأزياء وتعيش مع أبوين فقيرين من عامة الناس . لقد طالما سألت نفسي كيف استطاع هذين الأبوين البسيطان أن يلدا هذه البارعة الحسناء فقد كانت تمثل في امتشاق قامتها واعتدال جسمها واتساق حركاتها نضرة الربيع فتنسي الناظرين بيدين ورجلين طويلة ناعمة وبشعر أصفر ذهبي وأنف صغيرة وعينين كبيرتين .رأيتها لأول مرة في ثوب فتان جميل تحدثت إليها فلم أر منها ازورارًا عن أحاديث الأدب وهي وإن لم تكن بارعة الثقافة فإن لما إلمامًا بكل ما يتيسر لواحدة من طبقتها من العلوم ، فكنت أنظم فيها الشعر فتقرأه وتلحن وما ذا يضيرني أن تلحن إنجيل وهناك كثير من الفتيات يقرأن الشعر أحسن قراءة فلا يجدن من يقول فهن شعرًا وكانت تهوى الفن وملاعب الفنانين وتحب الموسيقى والشعر والرسم فتحب معها الموسيقيين والشعراء والرسامين ولكنها تفضل الأخيرين لأن هذه الحسناء المفتونة بحسنها يعجبها أن ترى رسمها في صورة رسام أكثر مما تراه في أبيات شاعر أو أنغام موسيقي .وكان لي أصدقاء من الشعراء والموسيقيين والرسامين فعرفتها عليهم وأنا فخور ولكن الغرور قرين الرعونة كما يقولون ، وكانت في أول أيام تعارفنا لا تعرف غير الأناشيد القديمة تعلمتها من روايات سخيفة فتنشدها بصوتها الهادئ ، فتخرج على تفاهها حاملة للسامع كل معاني الألم والحزن .فأخذت بعد حين تحدثني عن أحدث الأناشيد وتنشد ما لم أكن قد سمعته وأصبح صوتها شيئًا أخر غير ذلك الصوت الحزين الهادئ فأخذت أتلمس فيها تغيرًا ورقيًا كنت أعزوها لتأثيري عليها فأزداد تيهًا ثم أصبحت تتغيب عن مواعيدي كثيرًا ولقد طالما انتظرتها حتى إذا ما دنت ساعة اللقاء جاءني منها كتابها الأزرق الصغير الذي أعرف خطها في عنوانه فأفتحه بقلب واجف وأقرأ ما فيه بهلع لأنتهي منه فأعرف ما كنت أخشاه ، وهو أني حرمت متعتي في ذلك المساء فتنتابني الهموم وتساورني الشكوك فأسأل نفسي أين هي الآن وماذا تعمل وأكثر هذه الأسئلة التي طالما رددها المحبون المظلومون وسألوا فيها عن أحبابهم الغائبين .وأعود إلى غرفتي فأجلس في مقعدها الوحيد ثم آخذ كتابًا فأحاول أن أقرأ فيه ولكن الأفكار تساورني من جديد فأسال نفسي أين هي الآن وماذا تعمل ولقد أولعت من أيام الدراسة بالفريد دي دي موسيه فحفظت له الليالي عن ظهر قلب وعودت قلبي على احتمال الآلام فكنت أذكر لقاءنا الأول وأيام حبنا الأولى فتأخذني الأفكار وتمر الساعات وتكون الساعة الثانية بعد منتصف الليل وهكذا أقضي ليلة الفرح المنتظر في برح وشجون وأبيت حليف الآلام والهموم .كان لي صديق كنت أتحدث معه ذات يوم عن الحب والنساء فبادرني بهذا السؤال أنجتمع كثيرًا بانجيل ، أجتمع بها ولكن أقل ما أريد ، وهل تحبها وكيف لا ، وهل تحبك ؟ ومن يعرف حقيقة قلوب النساء ولكن أعتقد أنها تحبني وهل أنت واثق من إخلاصها لك وسكت عن السؤال ومكثت طويلًا وكنت أعرف في هذا الصديق ميلًا إلى المزح والنكتة فأخذت أحدق فيه عسى أن ألمح عليه علامات المزح فيما يقول .فوجدت أثر الجد ظاهرًا عليه فأراد التراجع قائلًا إنه لم يقصد شيئًا بما قال فألححت عليه أن يبوح بما يسر لأني أريد أن أعرف الحقيقة فقد أصبحت من شهور رهين الوسواس والشكوك وإن الذي ينقذني من هذه الشكوك يسدي إلى جميلًا لا أنساه له أبدًا .فقال على عادته في المزح تقصد أنك لا تنسى هذه الإساءة ما دمت حيًا فقلت له إنك لا تعرفني جيدًا وإن عليك أن تبوح لي بكل ما تعرف وهنا أخذت أصف له آلامي فرق لحالي وحمله قلبه الطيب أن ينير الطريق أمام هذا الصديق الأعمى فراح يصف لي خياناتها وتعلقها الآن بصديق من أصدقائنا والواقع أني لم أندهش من تلك الأخبار فقد أعددت لها نفسي منذ زمن فأشبعت رغبتي في معرفة أحوال أنجيل فعدت لنفسي وقلت أني قد أكون مخطئًا في حكمي ومن الخير لي أن أعرف الحكم اليقين من صديق جديد ولكنه قال أن علاقته بها علاقة صداقة لا غير ولكن اضطرابه واحمراره وتظاهره حملني للاعتقاد أنه يكذب .