منذ زمان بعيد على ظهر الأرض حيث لم يكن عليها أحد من الناس، كانت الفضائل والرذائل تتجول في هذا العالم معاً وتحس بالكثير من السأم والملل، وفي يوم من الأيام تم اقتراح لعبة جديدة لتحل محل هذا السأم الذي ساد على الأرض ولتكسر هذه الوحدة الموجودة فكان اختراع ما يسمى الغميمة، وأعجبت تلك الفكرة جميع الكائنات التي كانت على ظهر الأرض وقتها، وشرع الكل يصرخ بقوة يريد كل واحد أن يبدأ أولًا، فأحدهم يقول: أنا أبدأ أولًا، والآخر يقول: لا، بل أبدأ أنا أولًا، قال الجنون: أنا الذي سيقوم بإغماض عينيه وسأشرع في العد وتقومون أنتم بالاختباء، ثم إنه قام بالاتكاء على مرفقيه على شجرة ثم بدأ في العد قائلاً: واحد، اثنان، ثلاث، وشرعت الفضائل والرذائل بالاختفاء من أمامه، ووجد كل واحد في هؤلاء مكاناً يرى فيه أنه يحسن به الاختفاء عنده، فرأت الرقة أنسب مكان لها هو فوق سطح القمر فاختفت هناك على سطح القمر، ورأت الخيانة أنسب مكان لها هو إحدى كومات
الزبالة، فاختارت مكاناً موحشاً مزبلاً لتختبئ فيه، ورأى الولع أنسب مكان له هو بين الغيوم فذهب حيث الغيوم وغطى نفسه بها واطمأن هناك حيث لن يراه أحد، وشق الشوق طريقه إلى كبد الأرض واختفى عن الأنظار ظنً منه أن أحداً لا يمكن أن يصل إليه مهما حصل، وقال الكذب بأعلى صوته: سأقوم بالاختفاء تحت الأحجار ثم إذا به يتجه إلى باطن البحيرة، وواصل الجنون قائلاً: تسعة وسبعين، ثمانين، واحد وثمانين، أثناء ذلك كانت كل الرذائل والفضائل قد وجدت مكانها وأنسب الأماكن التي تختبئ فيها وظن كل واحد منهما أن لن يقدر الجنون على الإمساك به أبداً ما عدا الحب كما هي العادة فلم يكن له قرار، ومن ثم ظل إلى هذه اللحظة لم يقرر إلى أين يذهب وفي أي مكان يختبئ وهذا ليس مفاجئاً لأحد؛ لأن الحب معروف أنه من الصعب إخفائه، ولا يسهل أبداً أن يخفى الحب ويختبئ.
ثم واصل الجنون قائلاً: خمسة وتسعين ثم ستة وتسعين ثم سبعة وتسعين، وحين ذهب الجنون في العد إلى أن وصل المئة ذهب الحب سريعاً إلى مكان مليء بالورود ليختبئ فيه، ثم بدأ الجنون في أن يفتح عينيه وبدأ في رحلة البحث صارخاً: أنا سأتي إليكم، أنا سأتي إليكم، لن يستطيع أحد أن يهرب مني أبداً سأمسك بكم جميعاً، أنا آت أنا آت.
وأول ما انكشف من الرذائل هو الكسل؛ حيث إنه لم يبذل في سبيل تخفيه أي مجهود ولم يقطر بعرق في سبيل أن يختبئ، فكان من السهل جداً على الجنون أن يمسك بالكسل بلا عناء ولا تعب، ثم تكشفت الرقة بعد ذلك التي كانت من قبل قد اختبأت على سطح القمر، ثم على إثرها أمسك الجنون بالكذب من باطن البحيرة وهو تنقطع أنفاسه، وقام الجنون بالإشارة إلى الشوق حتى يخرج من شقِّه الذي شقَّه في باطن الأرض، وهكذا الجنون أمسكهم واحداً تلو الآخر، ولم يفلت منه أحد ما عدا الحب، وفي رحلة بحث الجنون عن الحب إذا بالجنون يفقد أعصابه لأنه لم يصل إليه سريعاً كما وصل إلى بقية الرفاق، مما زاد من غيظه جداً حتى همس الحسد في أذن الجنون واقترب منه بحذر ووشى عن مكان الحب قائلاً: الحب يختفي بين شجر الورد، فقام الجنون بإمساك شوكة من الخشب تشبه الرمح ثم شرع يطعن شجر الورد بصورة طائشة وجنونية جداً ، ولم يتوقف الجنون لحظة واحدة حتى سمع صوتً يبكي يمزق نياط القلب.
انكشف الحب من تحت هذه الشجرة وهو يخبئ عن عينيه آثار الدم، والدم يسيل من كل جوانبه وهو يبكي ويتحرق ألمً وشوقً ووجداً، وحالته في غاية الرثاء، فقد أدمى الجنون الحبَّ إدماءً كبيراً جداً لم يتحمله الحب حتى خرج ولم يستطع أن يختبئ أكثر من هذا، ثم عرف الجنون نتيجة خطئه وصرخ في ندم شديد: يا إلهي، أي داهية فعلتك بها أيها الحب الجميل؟ لقد جعلتك تخسر نظرك! ما الذي يمكن أن أفعله حتى أعيد لك أنظارك مرة أخرى، ما الذي يمكن أن أقدمه كي أكفِّر عن خطيئتي في حقك أيها الحب الجميل؟ فقال الحب: الذي حصل حصل والذي كان كان وأنت ليس في استطاعتك أن تعيد لي ما قد خسرته إلى الأبد، الآن الذي يمكن أن تفعله من أجلي هو أن تكون دليلي الذي يدلني ويرشدني، وهذا هو الذي حدث منذ هذه الساعة وذلك اليوم فقد أصبح الحب الذي فقد بصره وعمي ينقاد للجنون الذي أفقده البصر ورزقه العمى؛ ولهذا صار المتحابين منذ خُلِقوا إذا أحبوا بشدة: قالوا: أحبك بجنون!
هكذا كانت قصتنا، هكذا هو جنون الحب، الحب يفعل بالإنسان ما لا يفعله الجنون ذاته؛ لأن الحب في أصله شيء لا يقدر الإنسان على دفعه، شيء يتملك النفس الإنسانية فلا يفعل معها إلا أن تطيع الحب وتطيع صوت الحب، الحب شعور جميل وقوي وحساس لا يستطيع الإنسان أن يقول له: لا، والقلب المحب هو الذي ينبض ويتحرك، والقلب الذي لا يحب فهو قلب جامد ميت لا يتحرك، مسكين جداً هذا القلب الميت الذي لا يتحرك!