كانت العراق تُشكل مصدر اضطرابات وقلق في عهد بني أمية ، لذلك كان الخلفاء يتعمدون دائمًا إلى إرسال أشد الولاة إلى أهل العراق ، وكان من أبرز هؤلاء الطغاة الذين تولوا أمر العراق هو الحجاج بن يوسف الثقفي الذي عُرف بقسوته وحنكته السياسية ، حيث أنه كان شديد الدهاء ، وهو ما جعله يشغل المسلمون بالجهاد في سبيل الله في بلاد ما وراء النهر ، وكان ذلك من أبرز حسناته لأنه تسبب في كثرة الفتوحات الإسلامية آنذاك .
غزو بلاد السند : قام الحجاج بإعداد جيش قوي تحت قيادة عبدالرحمن بن الأشعث من أجل غزو بلاد السند والوقوف في وجه ملكهم رتبيل الذي خاف من قوة جيش الحجاج ، وهو ما جعله يبعث إليهم في طلب المصالحة ، ولكن ابن الأشعث رفض ذلك ، وتقدم في البلاد حتى حقق انتصارات هائلة ، حتى وجد أنه يجب التوقف عن التوغل في بلاد رتبيل أكثر من ذلك حتى يتم إصلاح البلاد التي افتتحها جيشه .
وحينما أرسل ابن الأشعث رأيه إلى الحجاج حول ضرورة التوقف عن التوغل في بلاد السند حتى يتم إصلاح البلاد المفتوحة ؛ رفض الحجاج هذا الرأي بل إنه تطاول عليه ووصفه بالجبن ، وأمره بمواصلة زحفه حتى لا يتم عزله من القيادة ، فقام ابن الأشعث بجمع أمراء الجيش ورؤوس أهل العراق ممن معه ، ثم أخبرهم بما صدر من الحجاج وأنه لن يطيعه وأن الرأي لهم .
ثار الناس بشدة على الحجاج ، بل إنهم أرادوا خلعه ومبايعة عبدالرحمن بن الأشعث ليكون أميرًا على العراق ، وبينما هم في طريقهم لمحاربة الحجاج جاءهم رأي آخر بخلع الحجاج وكذلك خلع الخليفة ابن مروان ومبايعة ابن الأشعث ليكون خليفة ، وكان هذا الرأي خاطئ تمامًا لأنه لا يجوز أن يكون الخليفة من غير قريش ، كما أن أصل ابن الاشعث يعود إلى اليمن ، وهو ما جعل بعض أهل العلم يرفضون مبايعته للخلافة واكتفوا فقط بمبايعته للإمارة .
مواجهة مسلحة : مضى الثوار من أهل العراق في ظل جيش ضخم أعدّه ابن الأشعث لمواجهة الحجاج ، حتى وقع بين الطرفين صدام مسلح في 10 ذي الحجة من سنة 81 للهجرة ، وقد انتصرت فيه آنذاك مقدمة الثوار ، فقرر الحجاج العودة بجيشه إلى البصرة حتى يعيد ترتيب أوراقه ، فلحق به ابن الأشعث ، وهو ما جعل الحجاج يفر هاربًا من البصرة ، فتمكن ابن الأشعث من دخولها ومخاطبة الناس كي يحاربوا الظلم ، كما دعاهم لقتال عبد الملك بن مروان نفسه .
موقعة الزاوية : أعاد الحجاج ترتيب جيوشه وعاد لمحاربة ابن الأشعث في البصرة في شهر المحرم من سنة 82 هجريًا ، واصطدم الطرفان حتى قُتل منهما الكثير ، وحدثت العديد من الاشتباكات الشديدة التي جعلت ابن الأشعث يفر إلى الكوفة ، فبايعه أهل الكوفة وهو ما أدى إلى ازدياد قوته ، ولم يستطع الحجاج من دخول الكوفة ، فعسكر بجيشه في منطقة دير قرة ، ثم اتجه ابن الاشعث بجيشه إلى منطقة دير الجماجم ، حيث ظل الطرفان متربصان ببعضهما البعض لقترة طويلة .
موقعة دير الجماجم : اضطربت أمور الدولة الأموية وتربص أعداء المسلمين ببلاد ما وراء النهر ، نتيجة لتلك الاضطرابات الواقعة في العراق ، وهو ما جعل عبد الملك بن مروان يُرسل إلى ثوار العراق يخبرهم بأنه سيخلع الحجاج إذا كان يرضيهم ذلك ، وأنه سيولي محمد بن مروان مكانه ، على أن يتولى ابن الاشعث إمارة أي بلد آخر ، وكان ابن الأشعث يحث الثوار على قبول العرض حقنًا للدماء ، ولكن الثوار كانوا يصرون على موقفهم .
أمر عبدالملك بن مروان الحجاج أن يقوم بمواصلة قتاله بعد أن رفض الثوار عرضه ، فاتخذ الحجاج سياسة النفس الطويل ، حتى دخلت سنة 83 للهجرة ولازال الطرفان بينهما اشتباكات كل يوم ، وعلى الرغم من انتصار جيش ابن الأشعث في العديد من المناوشات ، إلا أن الحجاج ظل صامدًا ، حتى قرر تنفيذ خطته بالإجهاز على موضع قوة جيش ابن الأشعث المعروفين بكتيبة القراء .
انتصر الحجاج بفضل خطته ، وفرّ ابن الأشعث هاربًا خارج البلاد ، حيث أنه لجأ إلى بلاد الملك رتبيل الذي أكرمه وأحسن إليه في ذلك الوقت ، حتى أرسل إليه الحجاج ليهدده بخراب بلاده إن لم يرسل له ابن الأشعث ، فبعث إليه رتبيل يشترط عليه ألا يقاتله عشرة أعوام ، ثم جاء الغدر من جهة رتبيل حيث قام بقتل ابن الأشعث ، ثم أرسل رأسه إلى الحجاج .