قصة من روائع القصص البوليسية ، التي فيها من العبرة والموعظة ، ما يجعل المرء يتوقف أمام عظمة الخالق وعدله ، وحدثت أحداث القصة بالفعل في بلاد العراق ، وتناجى الناس بقصتها فيما بينهم وتدور أحداثها كالتالي
التاجر : كان تاجر متوسط الثراء ، وكان يعمل بشراء الأبقار من العراق أو من إيران ، ثم يتنقل بها هو ورجاله مرحلة مرحلة حتى يصل إلى سورية ولبنان ، وقد يصل إلى مصر ، ليبيع ما لديه من الأبقار ، ثم يشتري منها بثمنها أقمشة ، ومصنوعات أخرى ، ويعود بها إلى العراق
التاجر المسالم : وكان الرجل مسالمًا حقًا : قوامًا ، صوامًا ، منفقًا على الفقراء ، قائمًا بواجباته نحو ربه ونحو الناس ، ورعا تقيًا نقيًا ، ماله ليس له وحده ، بل للمحتاجين من أقربائه، وأهل بلدته ولكلّ فقير محتاج
في أحد السفرات : وفي إحدى سفراته بتجارته ، وكان ذلك قبل الحرب العالمية الأولى بين عام 1914م ، وحتى عام 1918م ، هطل ثلج كثير ، فسد الطرق ، وقتل الأعشاب ، فماتت أبقاره عدا أربعة منها ، فصرف رجاله ، وأخذ يتنقل بها من مكان إلى آخر ، وكان في نيته أن يصل إلى حلب الشهباء ، ليؤدي ما عليه من ديون هناك حسب طاقته ، ويطلب تأجيل ما تبقى عليه منها إلى العام القادم ، لأن تجارته في عامه هذا لم تربح ، وأن مع العسر يسرًا
التاجر المسافر وترحاب صاحب الدار : وفي مساء ذات يوم من الأيام وصل إلى قرية صغيرة في طريقه من الموصل الحدباء إلى حلب الشهباء ، فطرق باب أحد بيوتها ، فلما خرج إليه صاحب الدار ، أخبره بأنه ضيف الله ، وأنه يريد أن يبيت ليلته في داره ، فإذا جاء الصباح سافر إلى قرية أخرى
ولم يكن حينذاك فنادق يأوي إليها المسافرون
ولم تكن يومئذ مطاعم يتناول فيها الغرباء طعامهم ، لقد كان الغريب أو المسافر يطرق أية دار من دور الموقع الذي يصل إليه ، ثم يحل ضيفًا بين ظهراني أهله ، ينام كما ينامون ، ويتناول طعامهم بدون أجر أو مقابل
ورحب صاحب الدار بضيفه ، وأدخل أبقاره إلى صحن داره ، وقدم الطعام للضيف ، والعلف للأبقار
صاحب الدار وأحواله : كان صاحب البيت معدمًا ، وكان قد أصابه ما أصاب الناس من جراء هطول الثلج بكثرة ولمدة طويلة ، فماتت مواشيه ، وتضرر زرعه ، وكان متزوجًا وله ولد واحد في العقد الثاني من عمره ، وكان في داره غرفتان : غرفة يأوي إليها هو وزوجه ، وغرفه يأوي إليها ولده ، واجتمعت العائلة حول الضيف الجديد ، وابتدأ السمر شهيًا طليًا ، عرف المضيف من خلاله أن ضيفه يحمل مبلغ من المال
آوى الجميع للنوم : وفي الهزيع الثاني من الليل ، آوى المضيف مع زوجه إلى غرفتهما ، وأوى الضيف إلى غرفة ولد المضيف ، فنام الولد على فراشه ، في الزاوية اليمنى من الغرفة ، وآوى الضيف إلى فراشه في الزاوية اليسرى من الغرفة ، وبعد أن سأل المضيف ضيفه إذا كان بحاجة إلى أي شيء ما ، ثم اطمأن إلى راحته ، وتأكد من وجود الماء لديه ، غادر غرفة ولده وضيفه إلى غرفته لينام هو أيضًا
الفرصة والعوز والمجاعة : وفي غرفته همست له زوجته : يا فلان ! إلى متى نبقى في عوز شديد ؟هذا الضيف غني ، ونحن بأشد الحاجة إلى ماله وأبقاره ، إننا مقبلون على مجاعة ، لا يستطيع الأغنياء أن يتغلبوا عليها إلا بمشقة بالغة ، وسنموت نحن بدون ريب ، إننا الآن نأكل يومًا ونجوع يومًا ، فكيف بنا إذا حلت بالقرية المجاعة المرتقبة ، ولا مال عندنا ولا طعام !! إن الفرصة سانحة لنا اليوم ، ولن تعود مرة أخرى في يوم من الأيام ! هلم إلى الضيف فاسلبه ماله ، وخذ أبقاره ، حتى تبقى على حياتنا وحياة ولدنا الوحيد
العزم على القتل : فقال لها الرجل : كيف وهو ضيفنا ؟ كيف أسلبه ماله وأبقاره ؟! كيف يسمح لنا بسلبه ؟! فقالت له زوحته : اقتله … ثم نرميه في حفرة قريبة ببطن الوادي ، ومن يعرف بخبره ؟ من !! وتردد الرجل ، وألحت المرأة ، وكان الشيطان ثالثهما ، فزين للرجل قول امرأته ، وألح هو أيضًا في الإقدام على قتل الضيف
ولكي تقطع المرأة على زوجها داء تردده ، ولكي يقطع عليه الشيطان ، قالت المرأة لزوجها : إن ما تفعله ضرورة لإنقاذنا من الموت الأكيد ، والضرورات تبيح المحرمات!
واقتنع الرجل وعزم على قتل الضيف وسلب ما لديه من مال ومتاع !
القتل ذبحًا : كان الوقت في الثلث الأخير من الليل ، وكان كل شيء هادئًا ساكنًا ، وكانت الأنوار مطفأة ، ولم تكن أنوار المنازل في حينه غير سراج يوقد بالزيت ، وأخرج الرجل خنجره وشحذه ، ثم يمم شطر غرفة الضيف وابنه ، ومن ورائه زوجه تشجعه ، ومشى رويدًا رويدًا ، على رؤوس أصابع رجليه ، واتجه شطر الزاوية اليسرى من الغرفة حيث يرقد الضيف ، وتحسس جسمه ثم تلمس رقبته في الظلام ، ثم ذبحه كما يذبح الشاة
الجثة : وجاءت إلى الرجل زوجته ، وتعاونا على سحب الجثة الهامدة إلى خارج الغرفة ، وحيث اكتشفا هناك أنهما ذبحا ابنهما الوحيد ، وشهق الرجل شهقة عظيمة ، وشهقت المرأة ، فسقطا مغشيًا عليهما ، وعلى صوت الجلبة استيقظ الضيف ، واستيقظ الجيران ، ليجدا ابن الرجل قتيلاً ، وليجدوا أمه وأباه مغشيًا عليهما راقدين إلى جانب الجثة الهامدة على الأرض
إلقاء القبض على الجانيين : وسارع الضيف وسارع الجيران إلى الرجل وامرأته بالماء البارد ، يرشونه على وجهيهما ، وسارع هؤلاء إلى تدليك جسدي الرجل وامرأته ، فلما أفاقا أخذا يبكيان بكاء مرًا ، وطلبا إلى الجيران إبلاغ الحادث إلى الشرطة ، فجاءت على عجل ، وألقت القبض على الجانيين
حقيقة ما حدث : أما عن ما الذي حدث في غرفة الضيف وابن المضيف !
لقد قام الابن إلى فراش الضيف بعد أن غادر أبوه الغرفة ، وأخذ الرجلان يتجاذبان أطراف الحديث ، وكان الحديث ذا شجون ، فطال أمده ، حتى نام الولد على فراش الضيف بعد أن غلبه النعاس ، ، ولم يشأ الضيف أن يوقظ ابن المضيف ، فترك له فراشه بعد أن أحكم الغطاء عليه ، ثم آوى على فراش ابن المضيف !
الإنسان الظلوم : وحين قد المضيف إلى غرفة الضيف وابنه ، كان متأكدًا من موضع فراش كل واحد منهما ، فذبح ابنه وهو يريد الضيف ، فكان كالخارجي الذي أراد اغتيال عمرو بن العاص ، في عماية الفجر ، فاغتال بدله خارجة بن حذاقة ، فلما علم بالخبر ، هتف من صميم قلبه :
أردت عمرًا وأراد الله خارجه
ودفن الجيران الولد القتيل ، واستقر والداه في السجن
الظلم لا يدوم : وقد تناجى الناس بعد خبر قصة الضيف والمضيف ، أن الله هو الغني والناس فقراء ، والله هو الرزاق العليم ، فليطلب المرء رزقه حلالاً ، والله هو الرقيب الحسيب فإذا نام الخلق ، فالخالق لا ينام ، ولن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ، والظلم لا يدوم وإن دام دمر ، والعدل يدوم ويزدهر ، وقال الله تعالى في كتابه الكريم ، بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا
صدق الله العظيم
الأحزاب 72