كان غيلان يذهب كلّ صيفٍ إلى القرية. فما إن ينتهي العام الدّراسي حتى يقصد غيلان الريف الهادئ الجميل ويخرج من ضجيج المدينة. وفي كلّ سنةٍ كان يقضي أياماً سعيدةً يمرح في السّهول بين الأشجار والجداول، ويسهر في الليل يسمع أجمل الحكايات من جدّته الطيبة.
وكان يساعدها في بعض الأعمال كأن يحمل معها الماء ويُطعم الدّجاجات وينشر الحَبّ للحمام ويرعى البقرة في المروج القريبة. وكان إسم قرية الجَدّة السعادة . وكان الفلاّحون يعملون بنشاطٍ وفرحٍ، لا يُعكّر صفو حياتهم أيّ شيءٍ.
سأل غيلان جدّته ذات يومٍ: لماذا سُمّيت هذه القرية بـ السّعادة ؟ هل هناك سبب لهذه التّسمية؟ أم إنّ الأمر عادي ليس فيه سرّ؟
رفعت الجدّة قامتها، فقد كانت مشغولةً بإصلاح القنّ، وقالت: سأجيب عن سؤالك في السّهرة.
في المساء، دعت الجدّة غيلان وبدأت تحدثه: يقولون يا عزيزي غيلان إنّ قريتنا اسمها السعادة وإنّها ستظلّ سعيدةً دائماً لأنّها نشأت منذ البداية على الصّدق والوفاء والتّضحية.. وقد جاء الوقت لأحكي لك قصة التّسمية كما سمعناها عن آبائنا وأجدادنا.
ذات يومٍ كان يعيش في قريتنا رجُلان، أحدهما اسمه صالح وآخر اسمه محمود، ولكلٍ منهما أسرة من عدّة أبناء وبنات. ولم تكن القرية حقيقية بل بقعة من الأرض ليس فيها سوى بَيتين، هُما بيت صالح ومحمود. وقد استصلح كلّ منهما قطعة من الأرض وراحا يزرعانها بجدٍ ونشاطٍ.
وفي إحدى السّنوات، مرض محمود وعجز عن العمل، فقال لصالح: خُذ يا أخي نصف قطعة الأرض وازرعها، واترك النصف الآخر لزوجتي وأبنائي، وتعطينا نصف المحصول الذي تنتجه.
وافق صالح. ولمّا نضج الزرع حصده صالح وأولاده. وفي آخر أيام الحصاد شاهد صالح ثعباناً كبيراً دخل في حجرٍ، فحمل مِعوَله وأسرع ليقتل الثعبان. وعندما حفر أكثر، شعر أنّ معوله أصاب جسماً قاسياً، فواصل الحفر. وإذا بجرةٍ مطمورةٍ في التراب.
وضع صالح الجرة جانباً، وظلّ يحفر حتى اهتدى إلى مكان الثعبان. وبعد ضرباتٍ من معوله، تمزّق الثعبان إلى قِطَعٍ.
عاد صالح بعد ذلك إلى الجرّة، وعندما قلبها إذا بليراتٍ ذهبيةٍ تتساقط منها.
أعاد صالح اللّيرات إلى الجرة، وغطّاها جيداً وحملها إلى البيت.
ولما انتهى صالح من أعمال الحصاد ودراسة السنابل، حمل حصة محمود وتوجّه إليه وأعطاه إيّاها. فشكره وأثنى عليه وعلى أمانته وأخبره صالح أنّ هناك ما هو أثمن من الحبوب، وأخبره عن الجرة المليئة باللّيرات الذّهبية. فقال محمود: ولكنّك يا صديقي أنتَ عثرتَ عليها، فهي من حقك!
لم يقبل صالح أن يأخذها، فعاد محمود ليقول: خُذ نصفها وأنا آخذ النّصف الآخر.
فقال صالح: الجرّة يا عزيزي، من حقّك وحدك، فأنا لم أتعب في الحصول عليها، إنّما وجدتها مطمورةً في التراب بأَرضِكَ.
طال الجدال بينهما، وأخيراً قرّرا أن يعيدا الجرّة إلى مكانها في الحقل، ويذهبا إلى الملك ليحكم بينهما.
توجّها إلى المدينة، وطلبا أن يُقابلا الملك، فطردهما الوزير صائحاً: الملك مشغول وليس لديه وقت لحلّ مشاكلكما.
فقال صالح: المسألة مهمّة يا حضرة الوزير، فنحن مُختلفان حول جرّةٍ مليئةٍ بالذهب. وما إن سمع الوزير بالذهب حتى جحظت عيناه، وجرى مُسرعاً إلى الملك. وبعد لحظاتٍ كانا في حضرة الملك الذي قال: سمعتُ أنّكما اختلفتما على جرّةٍ من ذهبٍ، من أين لكما جرّة الذهب؟ لا شكّ أنّكما لصّان.
فقال محمود: لا يا مولاي.. لسنا لصّين. جاري صالح زرع قطعة أرضي، وفي أثناء الحصاد وجد جرّةً مليئةً بالذهب، ويقول إنّها من حقّي، وأنا أقول هي من حقّه. وعرضتُ عليه أن يأخذ نصفها فلم يقبل. لذا جئنا إليك لتحكم في الأمر.
ضحك الملك ضحكةً مدويةً، وقال: المسألة بسيطة وحلّها سهل جداً. فرح الفلاّحان وشَكَرا الملك الذي أضاف: الجرّة لي فأنا الملك، وهذه الكنوز من حقّي وحدي.
صمت الفلاحان ولم يتكلّما.
استفسر الملك منهما عن المكان، وأرسل معهما عدداً من جنوده ليحضروا الجرّة.
وصل الجنود إلى مكان الجرة، وأخرجوها بعد أن أزاحوا عنها التراب، ومدّ أحد الجنود يده إلى الجرة بسرعةٍ، فقد أراد أن يستمتع بمنظر اللّيرات الذهبية، لكنه صاح صيحة ألمٍ قويةً، ثم وقع ميتاً. فلم يكن في الجرة سوى مجموعة من الثعابين. فلم يقترب بقية الجنود من الجرّة.
عاد الجنود إلى الملك وأخبروه بما حدث، وأنّ الرجلين كذبا عليه. غضب الملك وأخذ يصيح بالجُند:
إنّكم لصوص.. تريدون خداع الملك، لقد سرقتم جرّة الذهب وجئتم تقولون إنّ الجرة مليئة بالأفاعي. إنكم قتلتم ذلك الجندي لتغطّوا على سرقتكم! سآمر بإعدامكم فوراً
فقال أحد الجنود للملك، وهو يرتعش من الخوف: مولاي جلالة الملك، إن كنتَ لا تصدّقنا، فتعال معنا لترى الجرة بنفسك، فهي ما زالت في مكانها.
استغرب الأمر كلّ مِن صالح ومحمود. فبعد أن عاد الجنود تقدّما ونظرا داخل الجرّة، وإذا بها مليئة باللّيرات الذهبية وليس بها ثعبان واحد. وعادا إلى بيتهما.
وبعد ساعاتٍ قليلةٍ حضر الملك وجنوده إلى بيتيّ صالح ومحمود، وسألهما بصوتٍ غاضبٍ: هل صحيح أن الجرّة مليئةٌ بالذّهب؟
قال صالح: نعم يا مولاي!
قال الملك: ولماذا مات الجندي الذي مدّ يده إلى الجرة؟
ردّ محمود: لقد لسعه ثعبان في الجرّة.
سأل الملك: وهل في الجرة ثعابين؟
فردّ صالح: لا يا مولاي. لقد نظرنا داخل الجرّة بعد أن ذهب جنودك فلم نر إلاّ اللّيرات الذهبية.
ولم يستطع الملك أن يفهم ما يقوله الرجلان، فأمر بالتوجه إلى مكان الجرّة.
اقترب الملك من الجرة ونظر إلى داخلها، فإذا بها ممتلئة بالثّعابين. تراجع الملك وصاح: ما هذا؟ ثعابين؟ صحيح ما قاله الجنود.. أنتما كاذبان أتتجرّآن بالكذب علي؟ سيكون عقابكما عسيراً.
تقدّم صالح، وإذا بليراتٍ ذهبيةٍ تملأها.. ليس غير.. فحمل الجرّة بهدوء وقال للملك، الذي كان ينظر إليه مدهوشاً لأنّه يحمل جرةً تملأها الثعابين: يا جلالة الملك، أنظر.. ليس في الجرة ثعابين، ليس فيها سوى ليرات ذهبية
نظر الملك وكاد يُغمَى عليه، إذ شاهد ليرات ذهبية، ومدّ يده وأمسك بليرةٍ ذهبيةٍ وراح ينظر إليها. ثم قال: لا شكّ أن في الأمر سراً كبيراً.. علينا أن نستشير أحد الحكماء..
أرسل الملك يطلب كبير الحكماء إلى القصر، فاستمع هذا إلى كلام الملك ثم قال: هل تعطيني الأمان يا مولاي لأقول الحقيقة؟ أجاب الملك: لك الأمان يا كبير الحكماء!
هنا قال كبير الحكماء: إعلم يا مولاي أنّ الجرّة لا تحوي سوى ليراتٍ ذهبيةٍ، ولكن الطمع هو الذي كان يحوّل الذّهب إلى ثعابين. فعندما كنتم تريدون أخذ الجرّة، كانت تمتلئ بالثعابين، وعندما تعود إلى صاحبيها تعود ممتلئةً ذهباً.
أنصت الملك إلى هذا الكلام وأدرك أنّه لن يستطيع أخذ الجرة لأنّها ستمتلئ عندئذٍ بالثّعابين
وصرف الملك كبير الحكماء والجُند، ونفسه ما تزال عالقة بالجرة والذهب
قال صالح لكبير الحكماء: يا سيدي نريد حلاّ، فأنا لا أقبل الجرة، وكذلك صاحبي محمود، أنا أقول إنّها من حقه، وهو يقول إنها من حَقي
صمت كبير الحكماء برهةً، ثم سأل محمود: هل لك ولد شاب غير متزوّج؟
أجاب محمود: لا يا سيدي، بل عندي فتاة شابة اسمها شمس.
وهنا سأل صالح: وأنت هل لك شاب غير متزوج؟
قال صالح: أجل يا سيدي، اسمه وادي .
هنا قال الحكيم: الآن يمكنني أن أحلّ المشكلة. يتزوّج وادي
شمس ، وبهذا تكون الجرة لإبنيكما.
فرح الفلاحان من قلبيهما لهذا الحل، وقبّل أحدهما الآخر وعادا إلى القرية
وأقيمت حفلة صغيرة شاركت فيها أسرتا صالح ومحمود وبذل الجميع أقصى جهودهم لبناء دارٍ صغيرةٍ سكنها وادي مع زوجته
شمس .
وأكملت الجدة حديثها: مرّت سنوات وسنوات وكانت شمس تعمل في الحقل إلى جانب زوجها وادي . ورَزَقَهما الله أولاداً وبنات، وظلّ الجميع يتذكّرون أنهم أبناء صالح ومحمود وقد توارثت هذه القرية الصّدق والأمانة والعدالة، ولهذا أطلقوا عليها إسم قرية السّعادة . ولكن لا أعرف مَن الذي سمّاها بهذا الإسم.
سأل غيلان جدته: هل انتهت الحكاية يا جدّتي؟
فقالت الجدة: لا لم تنته يا ولدي العزيز مازال الناس إلى الآن يعتقدون أن الجرّة الذهبية مطمورة تحت التراب، وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يبحث عنها، بل على كلّ واحد في القرية أن يحصّل قوته بعرق جبينه، وأنّ الذهب إذا وجده الإنسان في التراب فقد يجعله طمّاعاً أو كسولاً إذ تأتيه الثروة من غير جُهدٍ. كما أنّ الأطفال يا بُنَيّ مايزالون يذهبون إلى وادي شمس ويصيح كلّ واحد باسمه فيجيبه الصدى، فيعتقد الطفل مثلاً أنّ وادي يردّ عليه، وتعتقد الطّفلة أن شمس تردّ عليها.
نام غيلان تلك الليلة ولكنه لم يحلم بالذّهب ولا بالجرة، بل شاهد فارساً على حصانٍ جميلٍ وخلفه عروس بثيابٍ بيض، هُما وادي وشمس، وصاحا بِغِيلاَن: تعال معنا أيها الصّغير
ركض غيلان نحوهما ولكنّهما ابتعدا، وظلّ يركض ويركض ويصيح: وادي.. شمس.. وادي.. شمس..
لكن نوراً دافئاً أيقظ غيلان، فوجد نفسه قرب النّافذة، وضوء الشمس يغمرُ وجهه فرفع رأسه، ونظر من النافذة.
كان كلّ شيءٍ في القرية جميلاً. المروج الخُضر وصياح الدّيك والعصافير وبقرة الجدة والنّاس الذاهبون والآتون، ومن بعيدٍ كان يبدو وادي شمس .