حدثت قصة قبل نحو 40 عاماً، لطالب في الصف السادس الابتدائي اسمه أحمد، في مدرسة اسمها القادسية في حي المرقب بمدينة الرياض.
أستاذ اللغة العربية اسمه حماد الحماد، شاب يلتهب حماسة ونشاطاً؛ لإيصال المعلومة إلى الطلاب، وفي تلك السنة أقام الأستاذ مسابقة لثلاثة من الفصول التي يدرِّسها في اللغة العربية، إذ يختبرون في الوقت نفسه وفي الأسئلة نفسها، والمواد تسلسل؛ فيوم للقواعد ويوم للتعبير ويوم للنصوص ويوم للخط والإملاء، وهكذا.
في نهاية كل يوم كان يعلن لكل فصل نتائجه، أي أن كل طالب يعرف نتيجته في المادة كل يوم. وإذ إن لكل فصل متفوقين متنافسين؛ فقد كانوا يستفسرون من بعض عن النتائج في نهاية اليوم. وفي اليوم الأخير وبعد أن سلمهم نتائجه، استنتج بطل قصتنا هذه أحمد أنه في المركز الثاني، وأن زميله زيد في الفصل نفسه حصل على المركز الأول؛ بناءً على المجموع العام.
عند إعلان النتائج وعلى السبورة كتب الأستاذ أن الحاصل على المركز الأول هو أحمد وليس زيد، ثم كتب بقية المتفوقين حتى الخامس.
كان رد فعل أحمد الأول هو السعادة، وهو يتلقى تصفيقاً كبيراً من زملائه وأستاذه، إلا أنه بعد ذلك احتار، فقد سبق له أن جمع الدرجات ويرى أن زيداً أكثر منه.
التفت إلى زيد وسأله هامساً: هل من الممكن أن أرى درجاتك؟ فأراه إياها، فتأكدت شكوكه في أن هنالك خطأً في المجموع، ومباشرة رفع إصبعه الصغير، مستأذناً المدرس الذي تساءل عما يريد؟ فقال أحمد: يا أستاذ زيد هو من حصل على المركز الأول.
راجع الأستاذ الورقتين مرة أخرى واكتشف أنه لم يحتسب درجتين عن طريق الخطأ لزيد؛ فعدل الترتيب وأصبح زيد الأول وأحمد الثاني، وبعدها قال الأستاذ: أحسنت يا أحمد لصدقك وأمانتك، ثم طلب من الفصل جميعهم أن يصفقوا له أكثر من المرة الأولى.
كانت مشاعر أحمد تلك اللحظة لا توصف من الفخر بصموده أمام إغراء السكوت، وهو ما قد يكسبه سمعة وشهرة لدى زملائه، ولكنه قد يخسر نفسه.
سأله أحد زملائه بعد أعوام: كيف تصرفت وأنت لم تستوعب بعدُ معنى النزاهة والضمير والمبدأ، فسنك لا يسمح لك بذلك؟ قال لا أعرف -تماماً- ما الذي دفعني، ولكن ما أنا متأكد منه هو أنني أدين لوالدتي ووالدي وأخي الأكبر الكثير مما أنا عليه آنذاك، من صدق ونقاء وعفوية، فهم المعلم الأول من دون شك.
سأله مرة أخرى: أأنت ذلك الطفل الصغير أم تغيرت تلك القيم؟ قال أحمد متنهداً: أكذب عليك إن قلت إنني هو، فقد مرت أعوام تجبر الصخر على التفتت، والأمواج تصطدم بجدار صلب وتحديات الحياة التي نواجهها تضعفنا عن الالتزام بهذه المبادئ، لكن من المؤكد أن من نشأ على مبادئ رائعة في صغره لا يفرط بها بسهولة.
هل انتهت القصة الحقيقية؟ كلا، فعندما تعرف أحمد على شريكة حياته، سألها سؤالاً متعمداً وآخر بمحض المصادفة، قال لها: الاحتمال الأكبر أن تسكن والدتي معنا لظروف كثيرة.. فما رأيك في الأمر؟ فقالت: لو احتاجت أمي في المستقبل أن تسكن معنا؛ فلن أقبل أن ترفض ذلك، فكيف أرفض أنا منك ذلك؟ ولو أنك تخليت عن أمك يوماً فلن أقبل منك ذلك، فمن يرفض أمه سيرفض زوجته.
كان السؤال الثاني هو: في أي تخصص ستدرسين؟ فقالت تقدمت إلى الطب، ولكن المعدل على رغم أنه مرتفع لم يكن كافياً للقبول، فقال لها أتريدين أن أحاول لكِ عن طريق صديق لي في الجامعة؟ فرفضت ذلك بإصرار؛ بسبب أنها لم ترد أن تستولي على مقعد لا تستحقه، سيكون على حساب أخرى.
أحمد وزوجته احتفلا في كانون الثاني (يناير) الماضي بعيد زواجهما الـ25، والأحداث بالمناسبة حقيقية.
يخيل إليَّ أن ظروف البساطة في الماضي أنتجت جيلاً أكثر نضجاً ومسؤولية والتزاماً، نستطيع من دون شك تكراره مع أطفالنا.