قصة أمينة

منذ #قصص بنات

كانت تسير مسرعة الخطى بل تكاد تقفز قفزاً وهي تتفقد ما أنتجته جميع الأقسام ، وكانت تبدي ملاحظاتها الدقيقة حول ماتراه … ولم يطمئن لها بال إلا بعد أن تابعت دقيق الأمور قبل كبيرها …وبعدها ذهبت السيدة " أمينة " إلى غرفة الإدارة ، وأخذت ورقة وقلماً وبدأت تدون ملاحظاتها الإعلانات ممتازة ، المطويات واضحة الهدف بليغة العبارات جميلة الوريقات .

الكتيبات أنيقة الأغلفة مسلسلة الأفكار .

الملفات الصحفية دقيقة مدققة .

أما الشريط المسموع فهو شريط فني الإخراج رائع الإعداد .

بقي شيء واحد تنتظره بفارغ الصبر .

إنه شريط الفيديو الذي سيعرض أثناء الحفل المعد اليوم .

قامت من مقعدها وقد رسمت ابتسامة عريضة على شفتيها .. خرجت من غرفتها وتأملت اللوحات بينابيع من الفخر والاعتزاز والزهو ، تنبعث من بين ضلوعها لتصارع ذكرياتها الأليمة والتي هجمت عليها بغتة .

إنها مهما حققت من نجاح حاضر لم تنجح يوماً في الهروب من الماضي الأليم " سامي " ذلك الجرح النازف مدى الحياة ، كان أنانياً متعجرفاً يريدها له وحده ، كان يرفض أن تخرج من بيتها لتعانق نجاح الحياة وتقدم رسالة لأمتها ومجتمعها .. لقد أصم أذنيها بمحاضراته حول دور الأم في تربية أبنائها … وكانت تطرب أذنيه حول دور المرأة الفعال الإيجابي في المجتمع ، إنها لايمكن أن تنسى لسعات حواره الأخير معها !!

أرجو أن تفهميني جيدأ أنا لا أعارض عمل المرأة إلا إذا تعارض مع مسؤوليتها الأولى .

مسؤولية الكنس والطبخ والغسيل والكي و …

لا ، إن دورها أسمى وأنبل من ذلك ، وإن كانت هذه الأمور تشكل جزءاً من مسؤوليتها ، فقالت ساخرة :

بدأنا بالفلسفة … تفضل أفهمني دوري ياعزيزي .. فأجابها بجدية بالغة :

إنني أتساءل : كيف يمكن لإنسان أن ينشأ قوي الشخصية قويم الأخلاق ثابت المبادئ وهو لايعرف أما واحدة بل طابوراً من الأمهات ؟

أجابته بانفعال : ماذا تقصد ؟؟!

خذي مثلاً ولدنا سامر .. بالأمس كان ينادي ماما "زيزي" ، ومن قبل كان يرتمي في أحضان ماما "إيوه" ، واليوم ينام بجوار ماما " آن " وغداً لا أدري !! فأين ماما "أمينة" ؟! فعلقت ببرود وشرود :

أنت تعرف جيداً أن ماما " أمينة " رئيسة جمعية نسائية خيرية وهذا يتطلب منها الكثير .. فأجابها :

وماذا ستكسبين وستكسب الإنسانية جمعاء من هذه الجمعية إذا خرج أطفال جميع المنتسبات مثل ولدنا سامر ؟ .. فقاطعته :

سامر.. طفل وسيم ، سليم البنية ، متين الجسد ، ماشاء الله ..لا ينقصه شيء .

رفع حاجبيه وقال بأسى :

هذه هي حقيقة المأساة ، التي تغمضين عينيك عنها !! فقالت بانفعال :

عن أية مأساة تتحدث ، إنك واهم بلا أدنى شك .

ألم تلاحظي بعد وتتابعي مقولاته ، سامر ضعيف التعبير لا يعرف لغته ، فقاطعته ساخرة :

لا أنتظر منه أن يصبح " سيبويه " زمانه !!

فرد بسخرية ظاهرة وحزن مكتوم :

إن لم يصبح "سيبويه" ، فليكن " جاهلية " .. إنه لايعرف لغته ، لغة القرآن ، فكيف سينهل العلم أيتها المثقفة ؟! فأجابت ببرود :

لا عليك .. عندما يكبر سيفهم . فأكمل قائلا :

أضيفي إلى ذلك تردده في اتخاد القرارات وشخصيته المهزوزة المهترئة و… فقاطعته قائلة :

وهل أصدرت أحكامك النهائية على طفل لم يبلغ الخامسة إلا حديثاً .. أين منطقك العلمي ياسامي ؟

بل هو عين المنطق ، فقد أجمع المربون على أن خمس السنوات الأولى هي أخطر فترة تربوية ، وخلالها تتشكل أسس الشخصية المستقبلية .

هذا الكلام هراء … وهو قمة الفلسفة .. يبدو أن آراءنا لم تلتق بعد .فعلق سامي :

أكاد أجزم أنها لم ولن تلتقي يوماً .

وخرج من غرفته آسفاً متألماً ، بينما اتكأت هي على أريكتها ، وبدأت تداعب خصلات شعر سامر المنسدلة ، وأبحر كل منهما في قارب أحلامه الخاص .

الهوة بينهما كانت تتسع مع الأيام ، والفجوات أصبحت دهاليز مظلمة ، كل منهما ينظر إلى الحياة بطريقة مختلفة إن لم تكن متناقضة تماماً مع نظرة الآخر .

قضت ليلتها تلك مكتئبة ، شعرت أنها لا تستطيع متابعة كلام سامر واهتماماته ، فطلبت من الخادمة أن تأخذه عندها ..

وكان القدر بانتظار سامر ، فقد انقلب شاي الصباح الساخن على صفحة وجهه الوسيم ، وترك آثاراً لن تمحوها السنون .

استشاط سامي غضباً وأسفاً وألماً و اغتنم تلك المناسبة ليعلن المفاصلة .

فقال بانفعال - بعد أن عاد من زيارة الطبيب - رضينا بالتشوهات التربوية فهل نرضى بالتشوهات الجسمية ؟ فقالت أمينة بهدوء مصطنع :

إنه قدر الله . فرد عليها بانفعال :

أو تعلقين كل إهمال يصدر منك على مشكاة الأقدار ، هذه سذاجة وبلاهة أيضاً . فردت عليه :

لا ، لقد تجاوزت حدك ، أنا لا أرضى بهذا ! فأجابها:

وأنا لايمكن أن تستمر حياتي على هذه الصورة المقيتة ، فقالت :

إذن فلـ … ولم تكمل كلمتها ، فأكمل هو بعد أن تنفس الصعداء .

نعم … إذن فلننفصل !!

سمعت تلك الكلمة فوقعت كالصاعقة الحارقة على قلبها … أحست بصراع مرير ، إنها منذ زمن وهي تبحث عن حريتها … ولحظة حصلت عليها شعرت أنها قشة هائمة في فضاء واسع. اضطربت خطواتها وجفت دموعها … ماتت كلماتها على شفتيها بل لقد رأت كل ما حولها ميتاً لا حياة فيه ، كادت ترجو سامي أن يتراجع ، خطر ببالها أن تقبل يديه ، لكن هل تفرش بساط تذللها له ؟ إن كبرياءها يأبى ذلك .

وخرجت من غرفة سامي لتلملم أشياءها وتعيش أيامها القادمة لنفسها .

وهاهي الآن سعيدة بحياتها ونجاحها ومشاركاتها الاجتماعية الفعالة ، كان سامي يريدها نسياً منسياً ، والآن يشار إليها بالبنان ، إنما الذي يزعجها هو ثورة الأشواق العارمة تجاه ولدها الحبيب سامر .

قاومت مشاعرها وخرجت لتشاهد مع الجمهور الشريط المرئي حول مدمني المخدرات .

ابتدأ الشريط بالتحدث عن أهم المشاكل الاجتماعية التي تسبب انهيار الشباب والفتيات فقد تبين من الدراسة أن تشرد الأطفال بسبب التفكك الأسري ، هو من أهم الأسباب .

واستطرد المتحدث قائلاً : ومما يؤسف له أن المخدرات بدأت تنتشر بين البراعم اليافعة … وإني لأكذب نفسي وأنا أخاطب واحداً من الضحايا … وإذ بصورة إحدى الضحايا تظهر .

امتقع وجه السيدة " أمينة" ودارت الدنيا بها ، أحست أنها ارتدت أثواب الذل والمهانة ، وأنها سيشار لها بالبنان .. ليس اليوم فقط بل طوال أيام العمر … لم تستطع أن تنظر إلى وجوه الحاضرين ، ربما اعتقدت جازمة أن كل عين رأت الصغير المدمن قد تعرفت عليه … بالضبط كما عرفته هي … نهضت وهي ترتجف ، أحست أن رأسها الشامخ لا يكاد يرتفع عن الأرض كثيراً … يبدو أنه يجب أن يلتصق بها … فقد قدمت بفكرها وجهدها وعرقها الكثير لوطنها وللإنسانية ، أجل لقد قدمت ماهو أهم من جميع أوسمة الشرف التي حصلت عليها في عدة مناسبات … لقد دارت بها الدُّنْيا ولم تنتبه إلى وسام الشرف الأخير الذي حصلت عليه من المسؤولين … فقد تقدمت نحوها إحداهن لتسلمها الوسام ، قفالت وهي في شبه ذهول :

أنا لا أستحق هذا … قاطعتها المشرفة قائلة :

هذا تواضع منك تشكرين عليه ، لكنك حققت إنجازات مذهلة أيتها السيدة الأمينة !!.

فردت بصوت خفيض ذليل : أجل … أجل ياعزيزتي ، فأنا في الحقيقة " أم سامر" ذلك الصغير المدمن

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك