طوال عام كامل ظلت سفينة إرنست شاكلتون محاصرة بين أكوام الجليد، الذي كان يضغط على هيكلها الخشبي الذي كان يطقطق احتجاجًا على ما يحدث،
وأخيرًا في 27 أكتوبر 1915 انتشرت موجة من الضغط عبر الجليد فرفعت مؤخرة السفينة ومزقت دفتها وبدأت المياه المتجمدة في الاندفاع داخلها، وكان ذلك ملخص ما حدث للرحلة الفاشلة التي قادها إرنست شاكلتون لاكتشاف القطب الشمالي
بدأ شاكلتون في التخطيط لرحلته إلى القارة القطبية الجنوبية، بمجرد عودته من بعثة “نمرود” التي تمت في الفترة بين عامي 1907-1907م، وقد قرر الإسراع في رحلته الاستكشافية، لأنه كان واثقًا أن هناك آخرون سينجحون في الوصول إلى القطب الجنوبي قبله، في حين أنه فشل في ذلك، وقد كان يخطط أن يعبر القارة القطبية المتجمدة من الساحل للساحل مارًا عبر القطب الجنوبي، وهي بالتأكيد مسافة طويلة جدًا تبلغ نحو 1800 ميل،
ولكنها في النهاية رحلة استكشافية يمكن إتمامها بنجاح مثل أي رحلة أخرى
خطط شاكلتون أن يبدأ رحلته من منطقة بحر ويديل جنوب قارة أمريكا الجنوبية عبر منطقة غير مستكشفة من القارة القطبية الجنوبية وصولًا للقطب الجنوبي ثم إلى بحر روس في جنوب نيوزيلندا
وتم التخطيط للقيام برحلات تزلج علمية واستكشافية أخرى نحو أطراف القارة مع بقاء مجموعة من الرجال في مكان رسو السفينة للقيام ببعض المهام العلمية، كما تم الاتفاق مع مجموعة ثالثة على الانطلاق على متن سفينة أخر تنطلق من بحر روس، لصنع مستودعات ومخازن ليستخدمها رجال الرحلة الأولى خلال فترة بقائهم
تم بناء السفينة المستخدمة في الرحلة في حوض بناء سفن بالنرويج، وكانت مخصصة للقيم برحلات سياحية إلى القطب الشمالي واسمها “ويدل” وكان لديها قدرة كبيرة على تحمل الإبحار في المياه المتجمدة، أما السفينة الثانية التي كانت ستنطلق من بحر روس فتم شراؤها من دوجلاس ماوسون وتم استخدامها في رحلة لأنتاريكتا عام 1911-1914م، وقد تلقت تلك البعثة مئات من طلبات من متطوعين أرادوا المشاركة فيها، على الرغم من أن الرحلة السابقة لاكتشاف القارة الجنوبية المتجمدة قد انتهت نهاية مأساوية
في 4 أغسطس 1914 نشرت الصحف البريطانية أمر التعبئة العامة للقوات المسلحة،إيذانًا ببدء الحرب العالمية الأولى، وفي الثامن من أغسطس ، أبحرت سفينة “إنديورانس” إلى القطب الجنوبي عبر بوينس آيرس وجزيرة أنتاركتيكا في جورجيا الجنوبية حيث كانت هناك محطة نرويجية لصيد الحيتان، كان من المعتقد أن الحرب ستنتهي في غضون ستة أشهر، ففكر شاكلتون في العودة والمشاركة في الحرب وارسل برقية إلى الأميرالية، لكنهم طلبوا منه استكمال الرحلة
في الخامس من نوفمبر عام 1914م، وصلت السفينة لجورجيا الجنوبية، وكانت الخطة أن تظل السفينة في جورجيا لمدة بضعة أيام للحصول على التموين، لكنها بقيت شهر حتى يتفرق الجليد في الجنوب، وخلال هذا الشهر، كون شاكلتون علاقات وثيقة مع صائدي الحيتان النرويجيين، وقد غادر جورجيا الجنوبية في 5 ديسمبر 1914م
وبدأت انديورانس تكافح لشق طريقها عبر آلاف الأميال من الجليد على مدى ستة أسابيع كاملة، وفي 18 يناير 1915م انخفضت درجة الحرارة بشكل كبير، مما أدى لتجمد الثلج السائب الذي أحاط بالسفينة من كل جانب، فأصبحت ” مثل حبة لوز في قطعة حلوى”.
من ناحية ، كان هذا أمر متوقع تمامًا ، فقد حدث للسفن في القطب الشمالي والقطب الجنوبي عدة مرات ، لكنه كان بمثابة نكسة كبيرة وبالنسبة لشاكلتون ، لا بد أن خيبة الأمل كانت مريرة، فقد كان عمره 40 عامًا ، وكانت بلاده في حالة حرب ، وقد استغرقت الرحلة الاستكشافية قدرًا هائلاً من الجهد والطاقة للاستعداد ، ولم يكن من المحتمل أن تتاح له هذه الفرصة مرة أخرى
بذل رجال شيكلتون جهدًا مريرًا لتحرير السفينة، فكانوا يستخدمون أزاميل جليدية ثقيلة وقضبان حديدية لكسر الجليد حول السفينة لكن دون، فكانت السفينة تنجرف إلى الجنوب الغربي بالجليد حولها
بحلول نهاية فبراير انخفضت درجات الحرارة وبلغت 20 تحت الصفر،
وأصبحت السفينة أكثر تجمدًا، وكان القلق يسيطر على الجميع، وبدأ الرجال في تنظيف جوانب السفينة، على أمل أنه مع بداية الربيع، يبدأ الجليد في الضغط فترتفع السفينة لأعلى فوق الجليد
كان من المتوقع أن تواجه الرحلة مشاكل بسبب الجليد، لكن هذا الاحتمال لم يم التخطيط له، بدأ الرجال المحبطين في تنظيم مباريات كرة قدم وهوكي فوق الجليد، ومع أوائل شهر يونيو بدأ بشائر عودة ضوء الشمس مرة أخرى، لكن مع ذلك ظلت درجات الحرارة منخفضة، وكان ضغط الجليد على هيكل السفينة هو أكثر ما يثير القلق، فكان الجميع ينتظر احتمالين فقط إما أن يذوب الجليد ويتفكك في الربيع، وإما أن يتماسك أكثر ويجرفه تأثير الرياح والمد على مدى مئات الأميال من البحر ويسحقها مثل لعبة صغيرة
لأن الرجال لم يكونوا يتوقعون أن يظلوا كل تلك الفترة في البحر، فلم يحملوا معهم ما يكفي من المؤن، ولم يعد لديهم ما يكفي من طعام، فخرجوا للبحث عن الفقمات وطيور البطريق وحتى الكلاب
يوم 23 أكتوبر 1915م، كان موقعهم عند 69 درجة شمالًا و11 جنوبا وخط طول 51 درجة شرقا و5 غربا، ولم تكن السفينة في وضع جيد ذلك اليوم، لذلك بدلًا من أن تكون قادرة على الانزلاق فوق الجليد، كان الجليد متمسكًا بها، ومع الضغط حدث أول ضرر حقيقي بهيكل السفينة، حيث أصبح العمود الخلفي ملتويًا، مما تسبب في تسرب داخلها، وفي البداية تم التحكم في هذا التسرب
لكن في يوم 27 أكتوبر كتب شاكلتون في مذكراته أنه بالرغم من أنهم مروا بأوقات من الأمل، إلا أن الضرر الذي لحق بالسفينة في النهاية كان أكبر من أن يتم إصلاحه
كان الرجال جميعًا أحياء، وكان هدفهم في تلك المرحلة محاولة السير عبر الجليد للوصول لأقرب أرض يابسة، فقاموا بإنزال ما استطاعوا إنزاله من المؤن والقوارب الصغيرة من السفينة، مع ترك أي شيء يمكن أن يستهلك مواردهم، فتركوا الكتب والملابس وتم إطلاق النار على الكلاب الصغيرة
وفي يوم 21 فبراير 1915م انهارت السفينة وغرقت بالكامل، لكنهم كانوا جمعوا أكبر قدر ممكن من الإمدادات، وبدئوا رحلة العودة لكنها كانت أيضًا أطول مما تصوروا، فقد قطعوا سبعة أميال فقط في سبعة أيام ونصف، وكانوا يستخدمون طوف جليدي وقد انجرف بهم إلى الشمال، وفي يوم 7 أبريل 1916م ظهرت القمم المغطاة بالثلوج في كلارنس وجزر الفيل، مما غمرهم بالأمل
وفي يوم 9 أبريل بدأ الطوف الجليدي في التشقق، فأمر شاكلتون بإطلاق القوارب، وفي الحال ولأول مرة منذ مدة طويلة لم يعد الرجال محاطين بالجليد، فجدفوا في المحيط، وفي 15 أبريل صعدوا إلى شاطئ في جزيرة الفيل
كانت هذه هي المرة الأولى التي يرون فيها أرضًا جافة منذ مغادرتهم جورجيا الجنوبية قبل 497 يومًا
لكن محنتهم لم تنته بعد، فكان احتمال أن يصادفهم أي إنسان ضئيلًا للغاية ، وهكذا بعد تسعة أيام من التعافي والاستعداد ، انطلق شاكلتون ورسلي وأربعة آخرون في أحد قوارب النجاة ، جيمس كايرد ، لطلب المساعدة من محطة صيد الحيتان في جنوب جورجيا التي تبعد أكثر من 800 ميلا
ولمدة 16 يوم قاوموا العواصف الرهيبة، وفي النهاية ألقت بهم الرياح على الجانب الأخر من جزيرة محطة صيد الحيتان، فكان عليهم أن يصلوا إلى المحطة سيرًا على الأقدام، وبعد 36 ساعة من السير والانزلاق أسفل الأنهار الجليدية، وصلوا إلى المحطة
تم إرسال سفينتين لإنقاذ 22 رجلًا محاصرين في جزيرة الفيل، لكنهما فشلتا في الوصول بسبب الجليد، لكن شاكلتون اشترى سفينة ثالثة، وأخيرًا في 30 أغسطس 1916م تم إنقاذ بقية الطاقم، لتنتهي رحلتهم الملحمية العصبية، دون تحقيق الهدف الأولى الذي سعوا لتحقيقه منذ البداية