قصة اكتشاف المشابهة الجزيئية البصرية

منذ #قصص منوعة

هناك فصل آخر أقل شهرة في تاريخ التبلور من شأنه إظهار ضرورة القدرة على تغير وجهة النظر والاقتباس من مجالات أخرى ؛ أي المطالبة بتعددية المجالات .علينا أن نتخيل حبلًا مشدودًا بصورة أفقية ، فعندما نقوم بتحريك أحد الأطراف من أعلى إلى أسفل بصورة رأسية ؛ فسنلاحظ تشوه شكل الحبل وعندها سنرى التموجات التي ستنتشر على المستوى الأفقي .وبهذا سنكون قد قمنا بصنع موجة مستقطبة مستطيلة أو غير خطية ، وعندها يسمى المستوى الأفقي مستوى الاستقطاب ، ويمكننا أيضًا تحريك الحبل في أي اتجاه ، فإذا ما قررنا أن نقوم بهز الحبل في اتجاهين متعامدين في ذات الوقت ؛ فإنه في هذه الحالة يمكن أن تقع أكثر من احتمالية ، منها أنه إذا كانت الاهتزازات متوافقة أو متعارضة ففي ذلك الوقت سيكون الاستقطاب خطيًا .أما إذا لم تكن كذلك ؛ فنحصل على استقطاب بيضاوي في حالة اختلاف المساحات ، ودائري في حالة تماثلها ، وفي الحالتين الأخيرتين يرى من يلاحظ الموجة الأمامية أن هناك اهتزاز ناتج يدور في اتجاه أو آخر .وإذا رأى الملاحظ أن مستوى الاستقطاب يدور في اتجاه دوران عقارب الساعة ، فنكون أمام استقطاب يميني على عكس الاستقطاب اليساري .يعتبر الضوء موجة كهروماغنطيسية ، وتتردد المجالات الكهربية والمغناطيسية معًا على مستويين متعامدين وعموديين على اتجاه الانتشار ، إلا أن الضوء الطبيعي ليس مستقطبًا ؛ لأن الاهتزازات فيه ليست متوافقة ، بل تحدث متزامنة في كل المستويات وتتغير في كل لحظة .يمكن أن يحدث استقطاب جزئي للضوء الطبيعي في حالة قيامنا بلف بعض النظارات الشمسية ، مما يفسر لون السماء الأزرق ، في عام 1810م لاحظ إتيان لويس مالوس أن الضوء يمكن أن يُستقطب بالانعكاس .ولكن كانت هناك إمكانية أخرى للاستقطاب ؛ فالمشابهة الجزيئية البصرية هي قدرة بعض المواد على تحويل مستوى الاهتزاز للحقل الكهربي من زاوية معينة ، وهذه هي ظاهرة الاستقطاب الدوراني للضوء .ولقد بيَّن فرانسوا أراجو هذه الخاصية بوضوح في عام 1811م بسعادة بلورات الكوارتز ، الأمر الذي كان من شأنه المساهم في تطوير أفكار أوجستين فريسنيل حول نظرية التموجات الضوئية ؛ فإذا كان الضوء العاكس متعدد الألوان ، فإن الاهتزاز الموافق لكل لون يدور من زاوية مختلفة .في عام 1815م وأثناء دراسته للاستقطاب المحفَّز بواسطة بعض السوائل مثل زيت التربنتين والمحاليل السكرية ، توصل جان باتيست بيو إلى أن دوران الضوء المنقول بوحدة الطول والمقسوم على الكثافة هو ثابت جزيئي ، وهي الخاصية التي أطلق عليها اسم قوة الدوران الجزيئي .هذا هو قانون بيو ، ولقد قام بتطبيق ذلك الاكتشاف على محاولاته في البحث عن معدلات السكر في البول ؛ أي اكتشاف مرض السكري ، كما قام بالعمل على إظهار أن هذه الظاهرة تنبثق من ترتيب العناصر الصغيرة التي تتشكل منها البلورة ، وبذلك الترتيب تكون البلورة في حالة تقابل ضوئي ؛ أي تكون صورة مرآة لبلورة أخرى أو لا .نُطلق اسم التماكب الضوئي وهو المشتق من كلمتي التماثل والتركيب على قابلية الشيء على أن يكون صورة مرآة لشئ آخر ، كحالة اليد نظرًا لأنها غير متماثلة ، ونميز بين المواد المتماكبة يمينًا ويسارًا بحسب اتجاه دوران مستوى الاستقطاب بالحزمة الضوئية التي تمر بها .بالنسبة لنوع من السكر يدعى الجلوكوز ؛ فإن مستوى الاستقطاب يدور ناحية اليمين إذا ما رأينا حزمة الضوء من الخلف ، ولذلك نقول إن الجلوكوز متماكب يميني تلك هي القاعدة المختارة ، بينما تدور مستويات استقطاب معظم جزيئات الكائنات الحية نحو اليسار ، إلا أن الأحماض الأمينية التي نفترض أنها أصل الحياة تمتلك تماكبًا يمينيًا .ويعد هذا الاختلاف لغزًا يمكن إرجاعه إلى عدم تماثل التفاعلات الضعيفة ، أي إلى الأجسام الدقيقة الأولية ذات الكتلة الأصغر من الإلكترون لكننا لم نصل هذا بعد ، ففي عام 1847م ناقش الشاب لويس باستير رسالتين في اليوم ذاته ، وكانت واحدة في الفيزياء والأخرى في الكيمياء ، وكان مهتمًا بدراسة بلورات أملاح حمض الترتريك الناتج عن تخمير عصير العنب .في عام 1844م لاحظ الكيميائي الألماني إيلهارد ميتشيرليتش وجود نوعين من المشابهة الجزيئية في حمض الترتريك ؛ الأولى وتدعى ترتريك لها نفس تأثير الاستقطاب الدوراني ، بينما بدت الثانية وتدعى شبه الترتريك أو الُمرازم مختلفة .بقي تفسير الظاهرة وإيجاد سببها ، وهي بالضبط المشكلة التي حلها باستير في رسالته في الفيزياء ، حيث أنه بمجرد عودته إلى معمل كريستوف فرانسوا دولافوس بالمدرسة العليا طرح باستير مسألة العلاقة بين ترتيب الذرات داخل الجزئ والقدرة الدورانية .وقرر البدء بتكرار جميع التجارب حول الاستقطاب الدوراني لبعض المحاليل ، ووقع اختياره على حمض الترتريك ، وكان في ذهنه العلاقة الممكنة بين تماكب الكوارتز وقدرته الدورانية ، ومن ثم كان واثقًا من وجود شئ ما داخل المحاليل مسئول عن الاستقطاب ، لم يعتقد باستير في أن بلورات حمض الترتريك متشابهة ولم يخدعه حدسه !!فبفضل قدرته على الملاحظة الطويلة ، ولجوئه إلى التدقيق بدون شك لقصر بصره ، أدرك على الفور أن بلورات حمض شبه الترتريك تمتلك أوجهًا دقيقة الحجم وغير متماثلة ، وهي الصفة التي لم يلحظها أي من سابقيه ، حيث أنهم لم يكونوا يبحثون عنها!وتوصل باستير إلى تقسيمهم إلى نوعين من البلورات الأصغر حجمًا لها أوجه متجهة سواء إلى اليسار أو إلى اليمين ، وكان النوعان متماكبين .تتكون بلورات حمض شبه الترتريك من خليط من الجزيئات المتماكبة اليمينية واليسارية بنسب متطابقة ، ومن ثم فليس لها أي قوة دورانية ، وأدرك باستير أن اختلاف ترتيب الجزيئات يؤدي إلى خاصية بصرية مختلفة يمكن قياسها .وباستخدام الظواهر الفيزيائية ، استطاع باستير أن يُثبت أن خاصية كيميائية وهي عدم التماثل الجزيئي ترجع إلى مسألة هندسية ، وبذلك استطاع أن يُذهل بهذا الاكتشاف العالَم العلمي كافة ، وخاصة العالم بيو الذي قضى عمره كله في دراسة البلورات .ولكونه متشككًا ؛ فقد طلب من باستير أن يأتي إليه ، ويعيد أمامه هذه التجارب ، ولما رآها العالم الشهير لم يصدق عينه ، وقال لباستير : يا بني العزيز لقد أحببت العلوم طوال حياتي ، حتى إن قلبي يخفق لهذا الاكتشاف .ويلعب الاستقطاب الدوراني دورًا مهمًا في العديد من أنظمة الكيمياء الحيوية ؛ لأن الجزئ لا يقدر على التفاعل بدون المشابهة الجزيئية البصرية ، ولقد أثار التفريق بين القدرة الدورانية اليمينية واليسارية العديد من المناقشات حول المادة العضوية وغير العضوية .وأصبح بعد ذلك مكونًا رئيسيًا في الجدل حول التناسل التلقائي ؛ أي أن باستير العالم الفيزيائي والكيميائي قد حقق تقدمًا في علم الأحياء ؛ فقد ربط بين عدم التماثل الجزيئي والكيمياء الحيوية مدركًا إحدى أهم خصائصها .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك