كانت سياسة الميتم الجديدة ، هي التخلص من بعض العميان اللائذين بأحدى الغرف الواسعة الرطبة الواقعة في الطابق الأرضي ..غرف العميان :
كان أولئك العميان ينامون على أسرة خشبية صغيرة ، مفروشة بأغطية ذات ألوان مختلفة ، هي قطع مخيطة الي بعضها من نماذج الاقمشة التي يهبها إلى الميتم كل عام رجل من التجار .كان وسط الغرفة خاليًا ، عدا ثلاث حمالات يستعملها العميان لرفع الكتب المثقوبة بالمخارز ، كان بعضهم يقعد الى هذه الحمالات وينشر فوقها أصابعه ليقرأ بها الثقوب ، مستغرقًا في قراءة سريعة مبهمة .سياسة الميتم الظالمة :
أما سياسة الميتم الجديدة ، فقد تبدت للرئيس أشبه بعملية بتر الأجزاء الفاسدة من الجسد الحي ، وقد كان بارعًا ، في شن الحملات الكوماندية الخاطفة على أولئك العزل الفاقدين لنعمة النور ، يفاجئهم في ساعات الليل والنهار متمحكًا بشتى الأعذار ، لصب ملامته فوق رؤؤسهم ، زاعمًا أن الصدقات قد شحت ، وضاق المكان ولم يعد الميتم ملجأ للعجزة والمقطوعين !!وطالما أنزل بهم عقوبات التأديب وحجز الطعام ، والضرب بطرف السير الغليظ ، وما فتيء يهدد ويتوعد بعينين محمرتين حانقتين توقع الرعب في نفس المبصرين حتى قذف ذات يوم بأحدهم الى الطريق وهو فرنسيس .حكاية فرنسيس :
كان فرنسيس مجهول الأصل ، لا يعرف لنفسه أما ولا أبا ، قد أطفأ الرمد عينيه منذ كان طفلًا ، والفى نفسه مشردًا في الأزقة ، يتصدق عليه أولو المروئه والرحمة حتى تكفله الميتم منذ عدة سنوات ، وعاش في أكنافه فذاق طعم الاستقرار ، واذ ما احتواه الشارع ، احترف في الحال مهنة التسول ، واتخذ من باب الميتم مقر له ، حيث تقع الكنيسة الكبيرة التي يؤمها المؤمنون في الصباح والمساء ، وتلقى من منبرها الشاهق أعظم المواعظ التي تدعو إلى الأخذ بأسباب الرحمة ، وإغاثة الملهوف واكتساء العاري ، ويردد في جوانبها اسم المسيح آلاف المرات في اليوم الواحد .رجال البلدية وحملات التسول :
كان فرنسيس يظهر في أيام الأحد ، بثوب أنيق ، وحذاء مجلو وسترة نظيفة وشعر مرجل فيتلو أدعيته في خشوع ويستدرره الصدقات ، كان التسول مهنة خطرة ومحظورة ، فثمة حملات بارعة يقوم بها رجال البلدية ، يختطفون المتسول من زاوية الشارع ويقذفون به في الطرقات ، كان فرنسيس يخشى هذه الحملات ويرتعد منها ، فقد بلغه أن الناس هناك يسامون الذل والهوان ومضطجعون على مساطب من خشب بحشايا وسخة صلبة وينهشهم جيش جرار من الذباب والبعوض ولا يعنى بالمريض وان بلغ شفا الموت .آلات موسيقية وعميان :
كانت يومها قد راجت بدعة لطيفة مستحبة ، هي احتراف الشبان العميان مهنة العزف على ىلة موسيقية في المرقص ، وكانت في الحق بدعة خلابة تفتقت عن أذهان نيرة ، تحسن وسائل الكفاح لشق طريقها ، في خضم الحياة الصاخب ، كان يقال أن الراقصات كن يشفقن على العازف الأعمى ويداعبنه حانيات ملاطفات ، وأن بعضهن قد يمنحن قبلا ولا يضيرهن اللمس والاحتضان .حلم فرنسيس :
هذه الأنباء اسالت لعاب فرنسيس الرجل الحامل لأحد أسامي القديسين المقربين من الكنيسة ، فحلقت به إلى أجواء وردية حالمة هي أجواء المرأة المتعطرة الشحيحة ، كان فرنسيس يذوب شوقًا لذلك المجد العظيم ، ولا يكاد هذا الحلم يبارح خياله ساعة من ساعات الليل والنهار ، الا أنه سبق ان خاب مرتين في حياته ، حين اعتزم أن يتعلم القراءة والكتابة على طريقة بريل ، ليصيب حرفة قد تكسبه قوت يومه ولكنه لم يتعلم .محاولات في حياة فرنسيس :
كان ذهنه عصيًا على فهمها ، وحاول كرة اخرى أن يتعلم الفرنسية وهي لغة الرهبان المفضلة ، فكان يلتقط الكلمات الطائرة ويحشوها في مخه ، ولكنها سرعان ما تختلط مع غيرها فتتشوش جميعًا ، وتتكسر في مقاطع ليست هي اللغة الفرنسية في شيء .أما اليوم فقد عزم عزمًا لا نكوص من بعده أن يثقب حظه العاثر ، بحرفة خالدة نادرة احترفها من قبل عظماء الرجال فأقبلت الجماهير لسماعهم وجابوا أطراف الأرض وأصابوا الثراء ، إلا وهي الموسيقى .فرنسيس والموسيقى :
وطوال شحاذة مضنية استمرت لستة شهور أمام باب الكنيسة ، وفي زوايا الأزقة والحانات والمشارب وترديد مالا حصر له من عبارات مسكنة ، والتوسل وبسط الكف ، واحتمال الدفع والزجر وتقبل الشتائم من السكارى ، اجتمع في كيسه أربعة دنانير ، هي سعر مناسب لابتياع كمان جيد ، عامر الأوتار والخشب ، وقد ابتاع فرنسيس الكلمات المطلوبة من أحد الباعة .زعم له أنها من مخلفات موسيقى شهير استعمله في مفتتح حياته الموسيقية ، وأوصله إلى أرفع الدرجات ، وخلد اسمه في سجل العباقرة ، ولكنه لم يشأ ذكر اسمه ، كان الكمان عتيقًا مهيبًا ، زيتوني الشكل واللون ذا رنين ثاقب كالصفير ، محفوظ في صندوق متهرئ سيء الاحكام ، كان فرنسيس يتأبطه بشدة حاجبًا عينيه المغمضتين بنضارة سوداء ، كما يفعل سائر العميان ، وشرع يختلف إلى أحد المعلمين ليلقنه بأجر زهيد شيئا من الفن .فرنسيس عازف كمان :
كان يتسول سحابة النهار كاشفًا عاهته بغير تستر ، ولا استحياء استدرارا لشفقة المحسنين ، وفي المساء يضع وعيناته الداكنة متأبطًا كمانه العتيق المخلخل الصندوق ماضيًا إلى محطة العربات .مضى نحو شهر قبل أن يتيسر لفرانسيس حفظ السلم الموسيقي وحده ، وضبط مواقع أصابعه فوق الأوتار ، وإذا ما انتهى الشهران أحس أصابعه غدت أكثر رشاقة وأخف مرونة ، وصار بوسعه أن يخرج بها السلم الموسيقي من غير خطأ ولا بطء ، إلا أن كان مطوقًا لتعلم عزف قطعة موسيقية معقدة ، مثل رقص الهوانم أو غيرها لكي يتمكن أن يحتل كرسيًا ، في جوقة المرقص فيثير اعجاب الراقصة الحسناء التي سوف تتغنج على أوتار كمانه .توتر وخوف :
كانت تلك الآلة الموسيقية الثمينة التي يمتلكها ، تعرقل خطاه وتملأ نفسه بالقلق والتوجس مخافة أن تتهشم على الأرض فتنكسر ، أو يطعن بمقدمها صدر انسان فيورثه ألمًا أو يرتطم بها في جدار صلب ..وذات يوم وقع ما كان يحذر منه ويخافه ، كان يقف في محطة السيارات لركوب العربة بالمجان كما هو الحال مع العميان ، وقد تأبط كمانه بيد واحدة واستعان بالأخرى على تثبيت غطاها ، بينما أصابعه العشرة توقع في الهواء ألحانا لا صوت لها يواكبها فرنسيس بصفيره ، كانت المحطة غاصة بالناس كشأن الأمسيات .وكان المطر خفيف يتساقط في قطرات ناعمة ، وكلما أقبلت سيارة طاح الناس علي بابها وتطارح فرنسيس بكمانه وعمي عينيه ، ثم سرعان ما يخيب ويعود إلى مكانه ، وهكذا طال مكوثه ، نحو عشرين دقيقه ، وخشي ان يمضي المساء وهو في مكانه من غير درس .أمطار وكارثة ومصيبة :
واستمر المطر يتساقط مبللًا الأرض ، على نحو خفيف ، إلا انه يكفي لجرف قدم غير محترسة الخطو وكانت تلك قدم فرنسيس ، لطم كمانه حتى جعله خرج من الصندوق ، ويطير في الفضاء فألقى فرنسيس نفسه وراءه في الآونة التي كانت تستقبل المحطة سيارة مقبلة ، فكان فرنسيس في الفسحة المكشوفة التي تقف عليها عجلتا السيارة الأماميتان .إن إحدى هاتين العجلتين سحقت كمانه حتى تفتت الخشب بصرير زاعق وتقطعت الأوتار ، شاكية متوجعة ، ثم أتت العجلة بالكامل بثقلها على كف فرنسيس اليابس المستعظم فسحقته هو أيضا عاجنة الدم واللحم والعظم المسفوح .نهاية حلم فرنسيس :
وعلى ذلك فان فرنسيس لم يعد عازف على الكمان في جوقة المرقص ولم تمحه الراقصات أي قبله بل انه اليوم مجرد متسول بائس مقطوع اليد ، يخشى رجال البلدية أن يخطفوه من الأزقة ويحملونه إلى دار العجزة .