ذات يوم قام صاحب شرطة المأمون الذي يُدعى العباس بن المسيب بالدخول على مجلس أمير المؤمنين في بغداد ، فرأى هناك رجل مكبل في حضرة أمير المؤمنين ، ويقول العباس عن هذه الحادثة : فلما رآني أمير المؤمنين قال لي “يا عباس” ، فقلت : لبيك يا أمير المؤمنين ، فقال لي : خذ هذا إليك واحتفظ به وبكر به إليّ في غد .قال العباس أنه دعا جماعة من أجل أن يحملوا الرجل الذي أعطاه إياه أمير المؤمنين ، وقال محدثًا نفسه : مع هذه الوصية التي أوصاني بها أمير المؤمنين من الاحتفاظ به ما يجب أن يكون معي في بيتي ؛ فأمرتهم فتركوه في مجلس لي في داري .من هذا الرجل المكبل :
قام العباس بتوجيه أسئلته إلى الرجل عن حاله وقضيته ومن أين قد أتى ، فأجابه الرجل أنه من دمشق ، فقال العباس : جزى الله دمشق وأهلها خيرًا ، فمن أنت من أهلها؟ ، فسأل الرجل : وعمّن تسأل؟ ، فقال العباس : أتعرف فلانًا ؟ ، سأله الرجل : ومن أين تعرف ذلك الرجل؟ ، فأجابه العباس : وقعت لي قضية معه ، حينها قال الرجل : ما كنت بالذي أعرّفك خبره حتى تعرفني قضيتك معه .قصة الرجل الدمشقي مع العباس :
تحدث العباس عن قضيته مع الرجل الدمشقي قائلًا : كنت مع بعض الولاة في دمشق ، فبغى أهلها وخرجوا علينا حتى إن الوالي تدلّى في زنبيل (قُفة) من قصر الحجاج ، ثم هرب هو وجميع أصحابه ، وهربتُ في جملة القوم ، فبينما أنا هارب في بعض الدروب ؛ إذا جماعة يعدون خلفي ، فما زلتُ أعدو أمامهم حتى فُتهم .أكمل العباس حديثه أنه مرّ فيما بعد بذلك الرجل الذي ذكره والذي كان جالسًا على باب داره ، فقال له العباس : أغثني.. أغاثك الله! ، فقال له الرجل : لا بأس عليك ادخل الدار ، فدخل العباس وحينها قالت له زوجة ذلك الرجل : ادخل الحجلة (وهي غرفة تُعد من أجل العروس في جوف البيت) .دخل العباس إلى الحجلة ، وكان الرجل واقفًا عند باب الدار ، فلم يشعر به العباس إلا وقد دخل ومعه رجال يقولون : هو والله عندك! ، فقال لهم الرجل : دونكم الدار فتشوها ، وبالفعل قاموا بتفتيشها ولم يعد سوى البيت الذي كان فيه العباس ، فقال الرجال : ها هنا .في ذلك الوقت قامت امرأة الرجل بالصياح في وجههم حتى انصرفوا ، ثم خرج الرجل وظلّ جالسًا على باب الدار لمدة ساعة ، بينما كان العباس يرتجف داخل الحجلة من شدة الخوف ، فتوجهت إليه زوجة الرجل قائلة : اجلس لا بأس عليك ، وجلس العباس ثم دخل الرجل قائلًا : لا تخف ، فقد صرت إلى الأمن والدعة إن شاء الله تعالى .شكره العباس ودعا له بخير الجزاء ، ومازال الرجل يعامله أحسن معاملة وخصصّ له مكانًا بالدار ، وأقام عنده العباس لمدة أربعة شهور في رغد من العيش حتى سكنت الفتنة وذهبت آثارها ، وحينها قال العباس : أتأذن لي في الخروج حتى أتفقد خبر غلماني ، فلعلي أن أقف لهم على أثر أو خبر؟ .أذن له الرجل في الخروج ولكنه أخذ عليه عهدًا حتى يعود إليه مرة أخرى ، فخرج العباس وطلب الغلمان ولكنه لم ير لهم أثر ، فعاد إلى الرجل وأخبره ، ومع كل هذا لم يكن الرجل يعرف اسم العباس ومن هو ، ولم يسأله وكان يخاطبه بكنيته فقط .سأل الرجل العباس عن نيته ، فقال له العباس أنه يعزم على التوجه إلى بغداد ، فقال له الرجل : القافلة تخرج بعد ثلاثة أيام ، وهأنذا قد أعلمت ، فقال العباس : إنك تفضلّت عليّ هذه المدة ، ولك عليّ عهد ألا أنسى لك هذا الفضل ، ولأكافئك ما استطعت .دعا الرجل غلامًا أسودًا كان عنده طالبًا منه أن يسرج الفرس ، ثم قام بإعداد آلة السفر ، فقال العباس في نفسه : ما أظن إلا أنه يريد أن يخرج إلى ضيعة له أو ناحية من النواحي ، وحينما جاء موعد خروج القافلة ؛ ذهب الرجل إلى العباس في وقت السحَر قائلًا : يا أبا فلان ، قم فإن القافلة تخرج الساعة وأكره أن تنفرد عنها .تعجب العباس في نفسه متسائلًا كيف يصنع ذلك وهو ليس معه مركوبًا أو ما يتزوّد به ، ولكنه تفاجئ حينما قام أن الرجل وزوجته يحملان له أفخر الثياب وآلة للسفر وخفين جديدين وسيف ، وحمل الرجل لأجله الصناديق على البغل ووضع له في الصناديق خمسة آلاف درهم ، وساعده على الركوب وأخبره أن الغلام سيكون في خدمته .أوضح العباس أنه يسأل عنه ليفي له بعهده بأنه لن ينسى فضله ، وحينما سمع الرجل المكبل ذلك الحديث قال إلى العباس : لقد أمكنك الله من الوفاء له ومكافأته بلا مؤونة تلزمك ، فسأل العباس : كيف ذلك ؟ ، فأجاب الرجل : أنا والله ذلك الرجل ، وإنما الضر الذي أنا فيه غيرّ عليك حالي ، فقام العباس بتقبيل رأسه وسأله عن السبب وراء حالته التي عليها .سبب أسر الدمشقي :
أخبر الدمشقي العباس أنه قد حدثت فتنة أخرى في دمشق مثل التي حدثت في أيامه ، وقد بعث إليه الأمير جيوش ليأسروه ، وتم ضربه وتعذيبه ، وأكد أن خطبه عظيم عند أمير المؤمنين وأنه سيقتله لا محالة ، ثم طلب منه أن يبعث إلى غلامه حتى يوصيه بما يريد ، وأخبره أنه بذلك يكون تجاوز معه حد المكافأة .قام العباس بإحضار حدّاد وفك قيود الرجل وألبسه ثيابًا من عنده وأحضر إليه الغلام ، وطلب منه العباس أن ينجو بنفسه من الهلاك وأخبره انه سيدبر أمره ، فقال الرجل : والله لا أبرح من بغداد حتى أعلم ما يكون من خبرك ؛ فإن احتجت إلى حضوري حضرت ، وأخبره العباس عن المكان الذي سينزل به .جزاء المعروف بالمعروف :
أرسل المأمون إلى العباس ليذهب بالرجل الذي معه إلى أمير المؤمنين ، وهناك سئل عن الرجل فطلب أن يسمع منه أمير المؤمنين ما سيقول ، فقال الأمير : لله عليّ عهد لئن ذكرت أنه هرب لأضربن عنقك! ، فقال العباس : لا والله يا أمير المؤمنين ما هرب ، ولكن اسمع حديثي ثم شأنك وما تريد أن تفعله في أمري .استمع أمير المؤمنين إلى حديث العباس وقصته مع ذلك الرجل ثم قال : أنا وسيدي ومولاي أمير المؤمنين بين أمرين ؛ إما أن يصفح عني فأكون قد وفيت وكافأت ، وإما أن يقتلني فأقيه نفسي ، وقد تحنّطت وهاهو ذا كفني يا أمير المؤمنين .حينها تحدث أمير المؤمنين قائلًا : لا جزاك الله عن نفسك خيرًا ، إنه فعل بك ما فعل من غير معرفة ، وتكافئه بعد المعرفة بهذا؟! ، هلا عرفتني خبره فكنا نكافئه عنك ولا نقصّر في وفائك له ، وهكذا عفا عنه أمير المؤمنين وطلب في إحضاره وأكل على مائدته ، وعرض عليه أمير المؤمنين أعمال دمشق ولكنه استعفى ، فأمر الأمير له بصلة عظيمة وكان جزاؤه خير الجزاء .