وقعت هذه القصة العجيبة في قديم الزمان ، بأرض بعيدة نسى اسمها الرواة ، في ذلك الزمان ، كان يعيش بتلك الأرض ألف غراب ، وألف من البوم ، الغربان بنت أوكارها بين أوراق شجرة عالية كثيفة الأغصان ، والبوم اتخذت بيوتها في مغارات داخل جبل كبير يحيط بشجرة الغربان ، ومضت السنون ، عام بعد عام .ثم مُلك على البوم ، ملك طماع لا هو حكيم ولا هو شجاع ، تطلع ذات يوم إلى شجرة الغربان ؛ لتكون متنزها له ، ولأتباعه المقربين ، ولأنه جبان لم يعلن الحرب على الطيور السود ، بل غدر بجيرانه السود سكان الشجرة ، وانقض عليهم بغتة ، وهم نائمون في أمان ، فقتل منهم عددا كبيرًا .وفي الصباح بعد أن حصرت الغربان خسائرها ، وجمع الملك وزراءه الخمسة ، وسألهم عن رأيهم ، وماذا يفعلون في تلك الكارثة ؟ ، فأجاب الوزير الأول ، وقد تملكه الفزع : نطير ! نهرب يا مولاي من وجه العدو الخطير !ونظر الملك إلى الوزير باستياء ، والتفت برأسه وسأل الوزير الثاني ، فأجاب الوزير بعدما أدرك استياء الملك من إجابة زميله ، وقال يا مولاي كيف نهرب ونحن الغربان ، الرأي أن نحشد الجنود ، ونقاوم العدو .فكر الملك في كلام الوزير ، والتفت للوزير الثالث يسأله الصواب ، فتظاهر الوزير بالعقل والحكمة ، وقال يا مولاي ، ليس أمام المغلوب سوى الاستسلام للأمر الواقع ، فلنسرع بطلب الصلح ، ولنقبل ما يعرضه ملك البوم من شروط ، إن أراد أسرى أعطيناه ، وإن طمع في جزء من الشجرة استضفناه .فنظر إليه الملك بغيظ ، والتفت للوزير الرابع وسأله نفس السؤال ، فضرب بجناحيه فى الهواء ، وقال لا فائدة يا مولاي ، لا بد من الجلاء ، وترك هذه الشجرة المنحوسة ، الشجر كثير يا مولاي ، فلنتركها لهم.فتعجب الملك ، كيف يفكر الوزير في الجلاء عن أرضه ، فالجلاء لا يكون إلا للمعتدين ، أما أصحاب الأرض فهم أولى بها ، وبعدها شعر الملك أنه ليس هناك حل ، بعد ما قاله الوزراء الأربعة ، فتردد في سؤال الوزير الخامس ، وأخذ يفكر في صمت ، ثم التفت إليه وقال ، وأنت بما تشير علينا ، بالهرب أم بالقتال أم بالصلح والاستسلام ؟فأجاب الغراب الوزير : يا مولاي أنا أعلم تمام العلم انك رفضت كل العروض التي سمعتها ، ولك الحق في ذلك ، فالقتال لا يقدم عليه إلا الأقوياء ، ونحن ضعفاء قتلوا منا مائة ، وجرحوا مائتان ، والهروب أيضا ليس من شيمنا ، فالحر لا يهرب ولا يستسلم ، وأنا يا مولاي لدي رأي ينجينا ، ويبقيك على عرش الغربان ملك شجاعًا كريمًا.فسأله الملك في لهفة ، وما هو هذا الرأي أخبرني أيها الوزير ؟ ، فرد الغراب رأيي سر يا مولاي ، لا يمكن أن أعلنه في هذا المكان ، فطار الملك على شجرة بعيدة ، وأشار للغراب لكي يتبعه .ولما وقفا على الشجرة سويا ، قال الملك ، ما السر يا غراب الذي ينجينا بإذن الله ؟ ، فقال الغراب الحيلة يا مولاي ، فتعجب الملك وقال : الحيلة أي حيلة تقصد ؟ ، فقال الغراب الوزير : ألم تسمع يا مولاي قول الحكماء أن الكثرة تغلب الشجاعة ، والحيلة تهزم القوة ، سأكون أنا حيلتك يا مولاي ، وحينما نرجع إلى الشجرة ، تظاهر بأنك ثائر غضبان .ولا تخبر أحد بالسبب ، فقط استدر وانقرني ، ومرهم أن ينقروني ، ويضربوني وينتفوا ريشي من عنقي وذيلي ، ثم يرموني تحت الشجرة ، وبعدها خذهم وغادر إلى المكان الذي أخبرتك به عالج الضعيف ، ودرب القوي ، ورجاء يا مولاي لا تخبر أحد بذلك ، حتى لا يكون بيننا خائن يعترف علينا ، وتفشل حيلتنا ، أو يعذب البوم أحدنا ، فيعترف بما نحن فاعلون .وبالفعل فعل الملك ، كما قال له الغراب ، فحينما عاد للشجرة هاج وماج ، وأخذ يضرب الغراب وهو وباقي السرب ، وبعدها طاروا على مكان بعيد ، وحينما جاء البوم ، وجدوا الشجرة خاليه من الغربان ، فأخذوا يضحكون من هروبهم ، ويسخرون من ملك الغربان الجبان .ولكنهم سمعوا صوتا يئن تحت الشجرة ويقول : آه يا عنقي ، آه يا ذيلي لقد قتلني الغربان ، سأنتقم منهم ، آه ، قطرة ماء ، يا من تسمعني غرابًا كنت أو بومه ، أه يا عنقي ، فسمعته بعض البومات القريبات ، وأخذته للملك ، يبت في أمره .وهناك كان البوم يحتفل بالانتصار ، ودخلوا بالغرب على الملك ، وحكوا له ما سمعوه منه ، فسأله الملك لما فعلوا بك ذلك ، فقال له يا ملك البوم العظيم ، عذبوني لأني قلت الحق ، وواجهتهم بضعفهم ، فأنت ملك قوي ، أقوي من كل الغربان .لذا طلبت منهم أن يقدموا لك الهدايا والعطايا حتى ترضى ، وتسمح لنا أن نبقى مع شعبك على تلك الشجرة ، ولكنهم ضربوني وعذبوني لأنني قلت الحق ، والآن يا مولاي أنا تحت رحمتك ، إن شئت قتلتني ، وان شئت أبقيت على عمري وعشت لك مخلصًا أمينًا .فاغتر الملك بنفسه ، أنه أقوى من الغربان ، وانتصر عليهم وسيخلد التاريخ اسمه في مغارات البوم ، وفكر أنه لو عفا عن الغراب ، سيقولون عنه كريم ، وعظيم يعفو عن الضعفاء ، وبالفعل عفا الملك عن الغراب ، وسمح له بالطيران ، والاقتراب من الشجرة العظيمة التي كان يعيش عليها مع جماعته .ولكنه كان يراقبه من بعيد حتى اطمئن له ، وفي يوم من الأيام طار الغراب الوزير للمكان الذي أرسل إليه الملك ، وباقي شعب الغربان ، وهناك أخبر الملك أن الوقت قد حان للانتقام ، وأن البوم يخرج ليلًا للصيد ، وبالنهار يتجمع في مغارة واحدة ، لأنه لا يستطيع الطيران في الضوء .وطلب من الملك وباقي الغربان أن يذهبوا في الصباح إلى بيت رعاة الغنم ، ويحضرون الحطب من أمامه ويلقونه أمام مغارة البوم ، وهو سيقوم بإحضار النار ، حتى يشتعل الحطب ، وتضيء المغارة أمام أعين البوم ، فلا يستطيعون الرؤية أو الهرب ، ويسهل الخلاص منهم .وفي صباح اليوم التالي تأهب الغربان للمعركة ، وأحضروا الحطب أمام المغارة ، وأضرم الغراب النار حتى أضاءت المغارة ، فخاف البوم ، وانتابه الفزع حين وجد الغربان تنقض عليه ، واستطاع الغربان بحيلة الوزير أن يتخلصوا من كل البوم ، ويستردوا شجرتهم الغالية مرة أخرى ، وكافأ الملك الشجاع وزيره المخلص علي حيلته الذكية ، التي أعادتهم لوطنهم سالمين .