أنا أيضا مثل الجمل زوجي ، سفينة الصحراء ، أمشي فيها بلا تعب ولا عطش ، وأتحمل السير لمسافات طويلة ، وكنت أعيش في مكة ، في الوقت الذي ظهرت فيه دعوة (محمد) عليه الصلاة والسلام ، وإلى عبادة الله وحده ، وكان يملكني أبو بكر الصديق ، صديق الرسول صلى الله عليه وسلم .ناقة الرسول :
وعندما قرر محمد عليه السلام وأبو بكر الهجرة إلى المدينة ، بعد أن قرر الكفار قتل الرسول ، جاء بي الدليل إلى باب الغار ، مع أخت لي ، أقوى وأسرع ، وركبني الرسول صلّ الله عليه وسلم وركب أبو بكر أختي ، وسرنا في الطريق إلى يثرب ، ولم أشعر بتعب طوال الطريق ، كما أن الحر لم يضايقني ، بل كنت أسير خفيفة سعيدة ، لأني أحمل أعظم مهاجر في أعظم رحلة .معجزات رحلة الرسول :
ورأيت الكثير من معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام خلال هذه الرحلة المباركة ، لقد رأيت الحمامة والعنكبوت فوق الغار ، كأن أحدًا لم يدخله ، وكيف لحق بنا (سُراقة بن مالك
على فرسه ، ورأيت منظرًا لم أره من قبل ، حين أشار الرسول صلّ الله عليه وسلم باصبعه فغاصت قوائمه في الرمال ثلاث مرات ، وشاهدت عنزة (أم معبد
لمستها يد النبي عليه الصلاة والسلام ، فقدمت لبنًا غزيرًا يكفي الكثيرين ويفيض .عظمة محمد :
كان كل شيء في رحلتنا يدل على عظمة محمد ، وعلى أن الله معه ، وعلى أن الكفار لن يستطيعون التغلب عليه ، وأستطيع أن أحكي لكم الكثير عن الطريق التي كثيرًا ماسرت فيها ، وكنت أقطع الرحلة في أحد عشر يومًا ، ولكني في هذه المرة قطعتها في ثمانية أيام ، مع أننا نسير ليلاً ونختفي نهارًا ، لأن كل العيون ترصدنا ، وكثيرون يبحثون عنا ، وتمنيت على الله أن أتم هذه الرحلة بالسلامة.يثرب :
واقتربنا من يثرب ، وظهر نخيلها وأشجارها من بعيد ، وشعرت بالبهجة والفرحة ، لأن الرسول نجا من أعدائه ، ورحت أسأل نفسي عن أهل يثرب ، وكيف يستقبلونه ، وقد علموا ولا شك بخروجه من مكة إليهم ، وكانت الشمس تتوسط السماء حين سمعت صوتًا من فوق ربوة عالية يصيح : هذا صاحبكم قد جاء .. هذا صاحبكم قد جاء .. وارتفعت أصوات تهلل وتهتف من أعماق قلوبها : الله أكبر.. الله أكبر ..استقبال وفرحة :
وأحسست الأرض تهتز لهذا الهتاف ، وشعرت بأن الدنيا كلها تردد مع المستقبيلن ، ونزل عني محمد ، وجلس مع أبي بكر الصديق ، في ظل نخلة ، والناس يتدفقون خارجين من يثرب ، إلى حيث يجلس الرسول صلّ الله عليه وسلم ، وكثيرون منهم أحبوه وتبعوه ، من قبل أن يروه أو يعرفوه .أهل يثرب :
سألت إحدى النساء جاراتها : أيهما النبي ؟ وأيهما أبوبكر ؟ وكان الظل قد زال عن الرسول صلّ الله عليه وسلم ، فقام أبو بكر يظلله بردائه ، فعرفت المرأة أن الجالس هو محمد صلّ الله عليه وسلم ، وأقبل الناس يسلمون عليه ، ويطلبون إليه أن يهديهم إلى الحق ، فتحدث إليهم ، يطلب منهم أن ينشروا السلام ، ويطعموا الطعام ، وأن يتصادقوا وأن يتحابوا ، وأن يصلوا لله سبحانه وتعالى ، ثم قام عليه الصلاة والسلام ، وركبني وأدهشني أنه لم يكن يقودني ، بل ترك زمامي .أنشودة استقبال الرسول :
وكان أهل المدينة يحيطون بنا ، وسار موكبنا ، وأعذب نشيد في الدنيا يرتفع من أفواه أحباء الله ، أطفال يثرب ، كانوا ينشدون ويغنون :.. طلع البدر علينا .. من ثنيات الوداع ..
.. وجب الشكر علينا .. ما دعا لله داع ..
.. أيها المبعوث فينا .. جئت بالأمر المطاع ..
.. جئت شرفت المدينة .. مرحبا يا خير داع ..وسار الموكب ، وأنا أتهادى بين الجموع ، والحب يطل من العيون ، والابتسامات تملأ الوجوه ، ودخلنا المدينة ، فإذا بكل أسرة تريد من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أن يقيم عندها : أقم عندنا يارسول الله .. لا سيقيم الرسول عندنا نحن .. ستأخذ بالناقة نقودها إلى دارنا ..إلخ .سكن الرسول في المدينة :
وطلب عليه الصلاة والسلام أن يتركوني .. ويفسحوا لي الطريق إلى أن أقف حيث يشاء الله ، في مكان معين .. ورأيتني أن أستطيع أن أسيطر على أقدامي ، وأحسست أن إرادة خفية تقودني إلى حيث لا أدرى… وفجأة شعرت بأنني لابد من أن أستريح في مكان وقفت عنده ، ولم أستطيع أن أتركه بل بركت فيه ، وهنا نزل عني رسول الله صلّ الله عليه وسلم ، ليسأل : من صاحب هذه الأرض ؟ قالوا : إنها لغلامين يتيمين يرغبان في أن يهدياها لك يا رسول الله ، ولكن الرسول صلّ الله عليه وسلم اشتراها منهما وبنى عليهما مسجدًا ، وبيتًا لسكناه .الأنصار :
وقد رأيت الكثير من حب أهل المدينة ، الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم ، الأنصار ، لضيوفهم المهاجرين إلى مكة ، كما لقيت الكثير من التكريم ، لأني حملت رسول الله خلال هذه الرحلة ، ولأني ناقة مباركة سارت إلى حيث أراد لها الله أن تسير ، وبركت حيث أراد الله أن تبرك .