إذا أردنا أن نتكلم عن قصة نجاح سنغافورة ، فإننا لا نتكلم عن دولة عادية أخذت بأسباب النهضة والرقي ، بل دولة حفرت طريق التقدم بلا موارد تذكر ، ولا مقومات ترصد سوى عزيمة أبنائها وحسن إدارتهم لبلادهم ، وهي اليوم تتغنى بالمؤشرات الاقتصادية الباهرة ، بعد قرابة خمسين عامًا من الكفاح .ولو تركنا لغة الإنشاء وتركنا المجال للأرقام فسنجد أنه بلغت حصة الفرد السنغافوري من الناتج القومي قرابة 62.4 ألف دولار سنويًا ، وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالمياً على هذا الصعيد ، متقدمة على كافة الدول الصناعية الكبرى بالعالم.سنغافورة قبل النهضة :
لم تكن سنغافورة تمتلك مقومات الدولة ولا الأمة ، فهي ليست سوى جزيرة صغيرة لا تزيد مساحتها على ستمائة وثمانِ عشر كيلومترًا مربعًا ، وكانت تعيش على نشاط قاعدتين عسكريتين بريطانيتين ، ويقطنها مهاجرون ينتمون لأعراق مختلفة .وقررت ماليزيا التخلي عن سنغافورة عام في عام 1965م ، وكانت حينها جزءًا منها موجهةً صفعة للبلد الصغير والفقير ومحدود الموارد ، وخصوصاً المياه ، فكانت ماليزيا تشكل المصدر الوحيد للمياه للسنغافوريين .وانتشرت المظاهرات والجرائم ، وأصبحت سنغافورة واحدة من بقاع الخطر في العالم ، واليوم وبعد تسعٌ وأربعون عامًا على الاستقلال ، تعتبر سنغافورة أحد أغنى دول العالم على الاطلاق ، من ضمن مجموعة النمور الآسيوية ، وتحتل المرتية الثالثة عالميًا .و يعتبر دخل الفرد السنغافوري أحد أعلى الدخول في العالم ، وتتمتع بمرتبة مرموقة عالميًا في مستوى المعيشة ، الاقتصاد ، التكنولوجيا و الأمان .التعداد السكاني لسنغافورة :
يبلغ تعداد سنغافورة السكاني 5.6 ملايين نسمة ، وفقًا لمؤشرات العام 2014م ، وتأتي المرتبة السادسة عشر عالميًا ، قبلها الدنمرك بفارق ضئيل جدًا ، وبعدها سلوفاكيا 5.4 ملايين نسمة .الناتج القومي لسنغافورة :
وفي العام 2013 م ، بلغ الناتج القومي الإجمالي لسنغافورة ثلاث مائة وتسعٌ وثلاثون مليار دولار ، محتلة في ذلك المرتبة 47 عالميًا ، وقد بلغت حصة الفرد من الناتج القومي 62.4 ألف دولار سنويًا ، وفق مؤشرات العام ذاته .وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالميًا على هذا النحو ، متقدمة على كافة الدول الصناعية الكبرى في العالم .سنغافورة تشق طريق النجاح :
تتميز الدولة المتقدمة بمميزات عديدة أولها المزايا الاقتصادية ، مثل القوة الشرائية والثروة والأنماط الاستهلاكية ، والتي تعكس التنافس مع الدول المتقدمة ، وهناك بعض المميزات الأخرى منها :اعتماد نهج الشفافية السياسية ، وحكومة صغيرة ، واقتصاد يتميز بعدم التدخل الحكومي ، ودور فاعل للمجتمع المدني ، وقد حققت سنغافورة معظم هذه المعايير ، وقرابة تسعة بالمئة من أصول هندية ، إضافةً لمجموعات صغيرة من جنسيات أخرى .في المقابل ، كان الجيران أكبر بكثير ، فإندونيسيا جنوبًا كانت تعد حينها مائة مليون نسمة ، والملايو (ماليزيا حالياً) شمالًا كانت تعد نحو سبعة ملايين نسمة ، أما الصين والهند القريبتان فهما الدولتان الأكبر والأقوى في آسيا .وضمن هذا المناخ ولدت سنغافورة لتشق طريقها إلى حيث العالم الأول ، ولتضيف إلى العالم نموذجًا متميزًا لما بات يعرف بالدولة المدينة .وكانت الخطوة الأول هي جعلها المدينة الأكثر نظافة ، وفي مسيرة بناء سنغافورة الحديثة ، حيث تمكنت من توحيد الأعراق المختلفة على هذه النقطة ، لتنطلق بهم بعد ذلك نحو بناء الدولة .وخلال أعوام ، استطاعت سنغافورة التغلب على حساسية الدول المجاورة ، والتي لم تكن تعتبر أن المنطقة تتسع لدولة أخرى ، وإن كانت صغيرة بحجم سنغافورة ، وقد أثبتت سنغافورة أن الأداء المتميز في جميع المجالات ، يمكن أن يقضي على العصبيات الداخلية ، وأن تحسين ظروف المعيشة يُمكنه الارتقاء بالدولة إلى مصاف الدول المتقدمة .مؤسس سنغافورة الحديثة :
يقول لي كوان يو ، مؤسس سنغافورة الحديثة ، وأول رئيس وزراء بعد الاستقلال ، والمعروف باسم الوزير المعلم ، في كتابه قصة سنغافورة :” لو كنت وزملائي نعلم عندما أنشأنا لحزب العمل الشعبي عام 1954 م ، حجم ونوعية المصاعب التي سنواجهها على طول الطريق الذي انتهجناه ، لما دخلنا معترك السياسة أصلًا ، لم يكن في أذهاننا سوى فكرةٍ واحدة ، الخلاص من الاستعمار البريطاني وبعد ذلك كل المشكلات تافهة ، يمكن معالجتها ولكننا كنا مخطئين كثيراً ، فنحن كنا في واقع الأمر نواجه مهمة شاقة ، وهي تأسيس دولة وإيجاد أمة من لا شيء ” .نجاح سنغافورة :
ولم يكن أمام سنغافورة سوى البدء بسياحة متواضعة ، مما لنجاح جزئي ومحدود لم يكن كافيًا ، للقضاء على البطالة التي وجدت البلاد نفسها غارقة فيها فور الاستقلال .وكان من الطبيعي ألا تقتصر الخطط على جانب واحد من الاقتصاد ، فتم تشجيع بناء المصانع الصغيرة ، وخاصة مصانع تجميع المنتجات الأجنبية ، ليتم البدء بتصنيع بعض القطع محليًا .وقد عرفت التجربة الكثير من الفشل ، سواء لنقص الخبرة أو عدم الحصول على الاستشارات الصحيحة ، وكلفها ذلك الفشل الثمن غاليًا ، ولكن البلاد استفادت من الدروس المكتسبة ، وعملت على عدم تكرار الخطأ .وقامت دائمًا باختيار العنصر الأفضل لأية مهمة أو واجب ، مهما كانت انتماءاته أو أصله ، كانت تهتم بالنتيجة فقط ، وكانت تعلم تمامًا أن فشلها سيعني حربًا أهلية واندثار حلم كامل ، وهكذا وبعد انسحاب قوات بريطانيا والكومنولث في العام 1971م ، وكانت البطالة قد زالت تقريباً .وقامت اللجان التي عملت من خلال مكتب رئاسة الحكومة ، باستلام كل القواعد والأراضي والمباني التي كانت قوات الاحتلال تستخدمها ، وحولتها فورًا للاستخدام المفيد والفعال .وكان من بين أهم إنجازات تلك الفترة ، إكمال منطقة جورونغ الصناعية ، وهي المنطقة التي شهدت نجاحًا ضئيلًا للغاية ، فيما يتعلق باجتذاب الاستثمارات الأجنبية ، حتى منتصف الستينيات ، ثم أخذت الحياة تدب فيها بسرعة بعد ذلك .وما إن اقتربت مرحلة السبعينيات من نهايتها ، حتى كانت البلاد قد وضعت حدًا نهائيًا لمشكلة البطالة ، وأتاح لها ذلك الانصراف إلى مشكلات أخرى ، مثل تحسين نوعية المنتجات ورفع مستوى التعليم ، بحيث لا يقل عن أفضل المستويات العالمية .وليس هناك شك في أن التقدم التقني المتصارع الخطى ، الذي أخذت البلاد على عاتقها مواكبته أولًا بأول ، قد سمح لها بأن تحوّل القلب الذي ليس له جسد إلى قلب ذي جسد ، لقد سمحت لها المواصلات والاتصالات الحديثة ، بأن يكون جسدها موجوداً في أقصى البقاع .وبعد أربعة عقود من العمل الجاد ، تحقق الحلم ، وانتقلت سنغافورة من دول العالم الثالث إلى العالم الأول ، كان هذا نصرًا لا يثمن ، فيعني ذلك مستويات دخل مرتفعة ، وانعدام الأمية ، وارتفاع معدل الأعمار وتحقيق معدلات نمو عالية .ومنذ العام 1996م صنفت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سنغافورة كدولة نامية أكثر تقدمًا ، وكان أحد الأسئلة المهمة هو : لماذا لا يمكن تصنيف سنغافورة كدولة متقدمة ، على الرغم من ارتفاع الدخل الفردي السنوي فيها ؟وكانت الإجابة هي : قضية البحث العلمي ، الذي لم تحقق سنغافورة فيه كامل المعايير العالمية ، على النحو السائد في دول العالم الأول .وتم المناقشة من وجهة اقتصادية ، الأسباب التي تجعل دولة صغيرة مثل سنغافورة تحقق مثل هذا النجاح ، وحاول كل من اليمين واليسار أن يفسر ذلك لصالح نظرياته ، فبعض منظّري اليسار يعتقدون أن النجاح الاقتصادي ، الذي يحقق عائد إلى اتباع نظرية المضاربات والودائع أو نسخة جديدة منها .وعلى صعيدٍ اجتماعي ، تحوّل المجتمع الذي كانت تهيمن عليه العُصبيات العرقية إلى واحدٍ من أكثر مجتمعات العالم استقرارًا ، وعلى الرغم من أن قوة سنغافورة الاقتصادية حقيقة لا جدال فيها ، فإن ذلك لا يغني عن الربط بين عنصرين أساسيين للقوة ، هما التوازن والاستقرار .ومفهوم التوازن
ونقصد به هنا التوازن الاقتصادي الاجتماعي
، يتداخل بحد ذاته على الصعيد الفلسفي مع مفهوم الاستقرار ، إذ عندما يتوصل أي عنصر مشوش لتحقيق غاياته ، فإن التوازن يكون قد انتهى بالتعريف .إن التنوع العرقي في سنغافورة يتداخل مع تنوع ديني ، وذلك أن معظم أفراد المجتمع الملاوي هم من المسلمين ، في حين أن الأغلبية الصينية هي أغلبية بوذية ، كما أن هناك انتماءات مختلفة للأقلية الهندية الصغيرة ، مثل الهندوسية والسيخ .كذلك ، تَلازم التنوع العرقي والديني مع تنوع لغوي ، متضمنًا بدوره تنوعًا واسعًا في اللهجات ، والتي يكاد بعضها أن يُصبح لغةً حصريةً على الناطقين بها ، فسنغافورة تقدم اليوم نموذجًا للاستثمار التنموي ، لمكونات عرقية وثقافية متباينة ، وإن نجاحها على هذا الصعيد هو سر كل نجاحاتها .