التقى عصفوران صغيران على غصن شجرة زيتون كبيرة في السّن،
وكان الزّمان شتاءً، والشّجرة الضّخمة كانت ضعيفةً، ولا تكاد تقوى على مجابهة الرّيح.
هزّ العصفور الأول ذنبه وقال: لقد مللت الانتقال من مكان إلى آخر، ويئست من العثور على مستقرّ دافئ،
ما أن نعتاد على مسكن وديار حتّى يداهمنا البرد والشّتاء، فنضطر للرحيل مرّةً جديدةً، بحثاً عن مقرّ جديد وبيت جديد.
ضحك العصفور الثّاني، ثمّ قال بسخرية: ما أكثر ما تشكو منه وتتذمّر، نحن هكذا معشر الطيور، خلقنا للارتحال الدّائم، وكلّ أوطاننا مؤقتة. قال الأوّل: أحرام عليّ أن أحلم بوطن وهويّة، لكم وددّت أن يكون لي منزل دائم، وعنوان لا يتغيّر.
سكت قليلاً قبل أن يتابع كلامه: تأمّل هذه الشجرة، أعتقد أنّ عمرها أكثر من مائة عام، جذورها راسخة كأنّها جزء من المكان،
ربّما لو نقلت إلى مكان آخر لماتت قهراً على الفور، لأنّها تعشق أرضها. قال العصفور الثّاني: عجباً لتفكيرك، أتقارن العصفور بالشّجرة؟
أنت تعرف أنّ لكلّ مخلوق من مخلوقات الله طبيعة خاصّة تميّزه عن غيره، فهل تريد أن تغيّر قوانين الحياة والكون؟ نحن معشر الطيور منذ أن خلقنا الله نطير ونتنقل عبر الغابات، والبحار، والجبال، والوديان، والأنهار، لم نعرف في عمرنا القيود إلا إذا حبسنا الإنسان في قفص، وطننا هذا الفضاء الكبير،
والكون كله لنا، الكون بالنسبة لنا خفقة جناح! ردّ الأوّل: أنا أفهم كلّ ذلك، أو تظنّني صغيراً إلى هذا الحدّ؟ أنا أريد هويّةً، وعنواناً، ووطناً، وأظنّك لن تفهم ما أريد. تلفّت العصفور الثّاني فرأى سحابةً سوداء تقترب بسرعة نحوهما، فصاح محذّراً: هيا، هيا، لننطلق قبل أن تدركنا العواصف والأمطار، أضعنا من الوقت ما فيه الكفاية.
قال الأوّل ببرود: اسمعني، ما رأيك لو نستقرّ في هذه الشّجرة، إنّها تبدو قويّةً وصلبةً لا تتزعزع أمام العواصف؟
ردّ الثّاني بحزم: يكفي أحلاماً لا معنى لها، سوف أنطلق وأتركك. بدأ العصفوران يتشاجران، وشعرت الشّجرة بالضّيق منهما،
فهزّت الشّجرة أغصانها بقوة، فهدرت مثل العاصفة، خاف العصفوران خوفاً شديداً، بسط كلّ واحد منهما جناحيه،
وانطلقا مثل السّهم مذعورين ليلحقا بسربهما.