يعد هذا المثل من أكثر الأمثال التي تضرب في الظلم ، وجور الحكام على رعيتهم ، فنحن نشتكي أمرنا إلى القاضي أو الحاكم ليفصل فيها ، فماذا لو جار علينا الحاكم نفسه ؟ وللمثل قصة غريبة ، فيها من العبر ما يهذب الحكام قبل العامة ، والقصة لإعرابي أتى معاوية بن أبي سفيان مستجيرًا من ظلم مروان ابن الحكم .قصة المثل :
يحكى أنه في يوم شديد الحر ، قدم أعرابي لمجلس معاوية بن أبي سفيان ، فتأمله معاوية ، وقال لجلسائه : ما الذي يأتي برجل كهذا في يوم شديد الحرارة لا يتحمله أحد ، والله لو كان سائلاً لأعطيته ، ولو كان مستجيراً لأجبرنه.ولما دخل الرجل على أمير المؤمنين معاوية قال له : ما حاجتك يا رجل ، فرد عليه الأعرابي : قد جئتك مستجيرًا يا أمير المؤمنين ، فقد ظلمني وإليك مروان بن الحكم ، وأنشد عليه أبيات تقص قصته ، وقال فيها :معاوية ، يا ذا الفضل والحلم والعقل وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج – كلاك الله – عني فإنني لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ – هداك الله – حقي من الذي رماني بسهم كان أيسره قتلي !
وكنت أرجى عدله إن أتيته فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي وجار ولم يعدل وغاضبني أهلي
فطلقتها من جهد ما قد أصابني فهذا ، أمير المؤمنين ، من العدل ؟ثم قال : يا أمير المؤمنين ، قد كان لي زوجة ، هي سعدى ابنة عمي ، كنت له محبًا وبها كلفا ، وكانت لي صرمه من الإبل أستعين بها على مصاعب الحياة ، والعيش ، ولكن أصابتنا سنة ذات قحط شديد ، أذهبت ما معنا من مال ؛ فأصبحت لا أملك شيء .لما علم أبوها بسوء حالي أخذها مني ، وطردني ، فذهبت إلى عاملك مروان بن الحكم ؛ لكي يردها إلي وينصفني من جور أبيها ؛ فأحضر أباها وسأله : فقال ما أعرفه من قبل ، فقلت : أصلح الله الأمير ، إن رأى أن يحضرها بين يديه ، ويسمع قولها ؛ فليفعل .فبعث إليها مروان ، ولما امتثلت بين يديه ، وقعت منه موقع الإعجاب فصار خصما لي ، وحبسني في السجن لكي أطلقها ، ولما رفضت جعل رجاله يعذبونني حتى طلقتها مرغمًا ، وتركني في السجن ، حتى انقضت أشهر العدة ، وتزوجها ودخل بها ، وأعطى أباها ألف دينار ومائة درهما لكي يرضى .فتعجب معاوية من جور مروان بن الحكم ، وقال والله لقد جئتني بحديث لم أسمع مثله من قبل ، وأرسل رسالة لمروان بن الحكم يقول فيها : (قد بلغني أنك اعتديت على رعيتك ، وانتهكت حرمة من حرم المسلمين ، وتعديت حدود الدين ، وينبغي لمن كان والياً أن يغض بصره عن شهواته ، ويزجر نفسه عن لذاته ، فما إن قرأ مروان ما كتبه معاوية حتى ارتعدت فرائصه ، فطلق سعدى في الحال ، وبعثها إليه)ولما رأى معاوية بن أبي سفيان زوجة الأعرابي ، وجدها أية في الحسن والجمال ، وخاطبها فكانت أفصح النساء منطقا ؛ فأعجب بها هو الأخر ، وقال للأعرابي هلا طلقتها وأغنيتك عنها بثلاث جوار ، ولك مع كل جارية ألف دينار ، ولك من بيت المال كل سنة ما يكفيك ، ويعينك عليهن .فلما سمع الأعرابي قول أمير المؤمنين شهق حتى ظن الجميع أنه مات ، فقال معاوية ما بالك يا رجل : فرد عليه الأعرابي قائلًا : شر بال ، وأسوأ حال ، استجرت بعدلك من جور ابن الحكم ، فبمن أستجير من جورك .وقال : يا أمير المؤمنين لو أعطيتني الخلافة بما حوته من مال ، ما تخليت عن سعدى ، فقال له معاوية : ولكنك طلقتها ، وطلقها مروان ابن الحكم ، فلنخيرها ، ونزوجها ممن تختار ، أن اختارتك رددناها إليك ، وأن اختارت سواك زوجناها له .فانصاع الرجل لكلام معاوية ابن أبي سفيان وسلم أمره الله ، وانتظر أن يسمع رأي سعدى ، فدعاها أمير المؤمنين وسألها عن رأيها ، وقال لها : أيُ أحب إليك يا سعدى ، أمير المؤمنين في عزه وماله ، أم بن الحكم في ظلمه وجوره ، أم الأعرابي مع فقره وجوعه ؟فأنشدت هذين البيتين :هذا وإن كان فقر وإضرار ، أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله ، وكل ذي درهم عندي وديناروقالت : يا أمير المؤمنين لقد عشت معه في السراء ، وما أنا بناكرة للجميل ، ولي معه صحبة قديمة ، وأيام سعيدة ، وهو أحق الناس بصحبتي ، وأنا أحق الناس بالصبر على مصابه ، فأعجب الأمير بمرؤتها ، وأمر لها بعشرة ألاف درهم ، وردها للأعرابي بعقد جديد .