يمتلك أصحاب الفراسة والحدس قدرات وإمكانيات لغوية عديدة وعجيبة قد تمر على الكثيرين في المعنى ويغفلون عن المغزى من ورائها ، فما بالك أن صاحب تلك الفراسة الخليفة العباسي الذي كان يحج عامًا ويغزو عامًا هارون الرشيد ، دخلت عليه ذات يوم أم جعفر البرمكية وكان عنده جامعة من وجوه أصحابة ومستشاريه ، فقال أم جغفر له يا أمير المؤمنين أقر الله عينك وفرحك بما أتاك وأتم سعدك فقد حكمت فقصدت .ثم قال لها هارون الرشيد من تكونين أيتها المرأة فردت عليه قائلة أنا من آل برمك ممن قتلت رجالهم وأخذت ديارهم وسلبت أموالهم فرد عليها الرشيد وقال أم الرجال فقد مضى فيهم أمر الله ونفذ فيهم قدره وأمال المال فمردود إليكِ ، ثم التفت هارون الرشيد إلى الحاضرين من أصحابه ومن معه فسألهم أتدرون ما قالت المرأة البرمكية .فقالوا له يا أمير المؤمنين ما نراها إلا مدحتك ودعت لك وقالت خيرًا ، فقال الرشيد للقوم وقد كان معروفًا عنه البلاغة ، ما أظنكم فهمتم مقصدها فأما قولها أقر الله عينك أي أسكنها عن الحركة وإذا سكنت العين عن الحركة عميت ، وأما قولها فرحك الله بما أتاك فأخذته من قول الله تعالى “حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذاهم بغتة ” وأما قولها أتم الله سعدك فأخذه من قول الشاعر إذا تم شيء بدا نقصه ترقب زوال إذا قيل تم ” وفي قولها لقد حكمت فقصدت فأخذته من قول الله تعالى فأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبًا “.فتعجب القوم من جرأة المرأة وعلمها الغزير فقد كانت المرأة تدعو عليه بدلًا من الدعاء له ، ولم يلاحظ الفقهاء والمستشارين الجالسين عند الرشيد وأبلغهم بيانًا وكان العجب في حنكة هارون الرشيد ، وذكائه الشديد في فهم مقصد المرأة البرمكية ومطلبها فقد كان حذرًا معها وفهم ما كانت ترمي المرأة إليه .