أؤكد لك أن الأمر يحتاج لشبح قوي كي يخيفني ، لقد عشت ثمانية وعشرين عامًا ولم أرى فيها شبحًا ، قلتها ووقفت أمام النيران وكأسي في يدي ، وعندها قال الرجل ذو الذراع القوي : إنه اختيارك الخاص وراح يرمقني شذرًا .وقالت السيدة العجوز وهي تحدق في النيران ، وقد اتسعت عيناها من كلماتي : حقًا لكنك عشت ثمانية وعشرين عامًا ، لم تر فيها مثيلًا لهذا البيت ، هناك الكثير مما يمكن أن تراه حين يكون عمرك ثمانية وعشرين عامًا .شعرت حينها أن العجوزين يحاولان بإلحاح المبالغة في أمر الأهوال الروحية لمنزلهما ؛ فوضعت كأسي على المنضدة ورحت أجوب الحجرة ، وأختلس نظرة للمرآة في أخر الحجرة ، وفجأة سمعت صوت عصا وخطوات ثقيلة في الممر الخارجي ، وأصدر الباب صريرًا ودخل عجوز آخر أكثر انحناءً وتقدمًا في العمر ، وكان يستند على عكاز وشفته السُفلى متدلية كاشفة عن أسنان صفراء .اتخذ طريقه إلى الشيزلونج وجلس عليه دون روية وراح يسعل ، لم تبد المرأة ما يدل على أنها لاحظت قدومه وواصلت التحديق في النار ، لاحظ العجوز وجودي بعد أن توقف عن السعال فأمال رأسه ليراني بطريقة أفضل ، وعندها قالت العجوز : هذه الليلة دون غيرها من ليال !! ، عليك أن تذهب وحدك .فقلت لها : وأي طريق أسلك ؟! فردت قائلة : تمشي هذا الممر حتى تبلغ بابًا ثم درجًا حلوزونيًا ثم باب آخر ، ادخله ولسوف تجد الغرفة على يسارك ، وتحدث الرجل الأكبر سنًا لأول مرة قائلًا : هل حقًا أنت ذاهب ؟! وكان ردي الوحيد هو : هذا ما جئت لأجله .كان الممر مغبرًا وراح لهب شمعتي التي أضأتها يتأرجح ، والظلال على الحائط تتحرك ورأيت ظِلًا يصعد السلم نحوي ، وآخر يطير من فوقي ليذوب في الظلام ، توقفت لحظة وأنا أرهف السمع وارتحت للصمت المطبق .حركت شمعتي لأرى جوانب مدخل الغرفة الحمراء ، فتحت الباب في تردد ودخلت ، أوصدت الباب ورائي وأدرت المفتاح في القفل ثم وقفت أرمق مسرح سهرتي ، الغرفة الحمراء العظمى في قلعة لوريان ، حيث مات الدوق الشاب أو بالأحرى حيث بدأ موته عند فتحه لهذا الباب ، وتدحرج فوق الدرجات التي ارتقيتها من فوري .وكانت هذه إحدى الحكايات التي زادت في عقول الناس الخرافات بشأن هذه الغرفة ، ولم تكتفي هذه الغرفة بقتل الدوق ، ولكن في هذه الغرفة أيضًا ماتت كونتيسة كان زوجها يحاول إفزاعها مازحًا معها ، فما كان من الموقف إلا أن ينتهي نهاية مأساوية بموت الزوجة الجبانة .بدأت في تفحص المكان بواسطة الشمعة ، والتي أعطت للمكان هالة من الغموض ، وروحت أذرع المكان ، بعدما أوصدت الباب بإحكام متفقدًا كل قطعة من الأثاث ومزيحًا كل ستارة لأرى ما وراءها .بدأت في إشعال الشموع بالمكان وكذلك أشعلت المدفأة ، ولكن كل ذلك لم يُزِل كل خوفي من المكان خصوصًا ، مع وجود ركن قصي في الغرفة لا يصله الضوء ، ويُمثل نوعًا من الغموض لي .في النهاية قررت أن أذهب وأتأكد أنه ليس هناك أي شيء ملموس في ذلك المكان ، ولزيادة الطمأنينة في نفسي ، بدأت في الغناء ببعض الألحان لكن الصدى لم يكن لطيفًا على الإطلاق !! ومع كل الإضاءة التي حاولت أن أشعلها بالغرفة ظلت مظلمة تقريبًا .عندها تذكرت الشموع في الممر فخرجت من الغرفة وعدت بعشر شموع ، وبدأت في توزيعها في الغرفة ؛ فأصبحت الغرفة كلها مضاءة تقريبًا ، لدرجة أني خطر في بالي ، أنه لو جاء شبح ما علي أن أنبهه حتى لا يصطدم بكل تلك الشموع !كان كل شيء على ما يُرام حتى انطفأت إحدى الشموع في مكان ما ؛ فصحت عاليًا : بحق الله يا لها من نسمة قوية من أطفأت الشمعة ، تناولت عود الثقاب وبدأت أشعلها ولم أكد أشعلها حتى انطفأت الشمعة الموجودة عند المرآة ، فذهبت وأشعلتها أيضًا وهكذا كنت كلما أشعل واحدة تنطفئ الآخرى ؛ فصحت فجأة : هذا لن يصلح ، فانطفأت إحدى الشموع أيضًا فصحت بصوت مبحوح : ماذا هناك .بدأت يداي ترتجفان فما إن أشعلت شمعة التسريحة ، حتى خبت شمعتان عن طرف النافذة ولكني بدأت أشعل الشموع مرة أخرى ، وللحظة خُيَّل لي أني قد هزمت الظلام ، ولكن فجأة خبت أربعة أضواء في أركان مختلفة من الحجرة ؛ فأشعلت عود ثقاب أخر في لهفة .لكن ظل الانطفاء يحيطني من كل مكان ، فشعرت أن ثمة طريقة ، أفضل فوضعت الثقاب على المنضدة ، وأمسكت بحامل الشموع وهكذا أتلافى بطء اشتعال الثقاب ، لكن الانطفاء استمر ، وراحت الأشباح تلاحقني وتكسب أرضًا جديدة في كل مرة من الظلال والظلام !!الآن شعرت بالهلع من فكرة الظلام القادم وقد فقدت كل قدرة على التماسك ، كنت أجري من كل شمعة للأخرى في صراع معدوم الجدوى حتى أصبت بكدمة في فخذي من اصطدامي بالمنضدة ، سقطت وسقطت معي الشمعة ، التي كنت أحملها في ذلك الوقت وانطفأت ثم انطفأت أخر شمعتين بالغرفة .لكن الغرفة لم تكن مظلمة تمامًا ، ثمة ضوء أحمر آت من موضع ما ، المدفأة !! بالتأكيد ، مازال بوسعي أن أشعل الشمعة من المدفأة وعند ذهابي إلى المدفأة حيث اللهب يتراقص بين كتل الفحم ، فجأة تلاشى اللهب دون إبطاء فشعرت أن الظلام يطبق علي كإنغلاق الجفنين .مددت ذراعي في محاولة واهية للتخلص من الظلان المحيط بي ، بدأت في الصراخ بكل قواي مرة واثنين وثلاثة ، عندها لم أفكر إلا في الهرب من ذلك المكان ؛ فبدأت بالركض باتجاه الباب عازمًا على الفرار بدون إبطاء ، لكني نسيت موقع الباب ؛ فاصطدمت بقطة أثاث وأذكر بشكل ضبابي ركضي في الظلام ، صراخي الوحشي ، صراعي المحموم ، وفجأة شعرت بضربة مدوية على جبهتي وشعوري مريع بالسقوط هو كل ما أتذكره ثم لا شيء .فتحت عيني في ضوء النهار رأسي ملفوف بالضمادات ، بينما الرجل ذو الذراع القوي يرمق وجهي ، نظرت حولي لأحاول التذكر لكن لم أستطع ؛ فقلت للعجوز التي ظهرت من جانب الغرفة : أين أنا ؟ إنني أتذكركم ولكن لا أتذكر ما حدث ؟فقصوا علي كل شيء وقالوا أنهم وجدوني عند الفجر والدم يكسو وجهي ، عندها بدأت التذكر ببطء وعاد العجوز يقول ، تُراك أمنت أن الغرفة مسكونة ؟ ، فقلت : نعم إنها مسكونة ، فقال الرجل : إنك رأيت ذلك ، بينما نحن نعايشه كل يوم لكن لم نره قط ؛ لأننا لم نجسر مثلك للقيام بما قمت به ، أخبرني هل هو الشاب الذي ؟سارعت بالقول : لا ليس هو ، فقالت العجوز : كنت أعرف ؟ ، من المؤكد أنها تلك الكونتيسة البائسة التي أخافها زوج ، فقاطعتها أيضًا قائلًا : لم تكن هي أيضًا ، وأكملت قائلًا : لم يكن في الغرفة الحمراء أي أشباح وإنما هو أسوء ، أسوء بكثير ، إنه الخوف ، الخوف الذي لا ضوء له ولا صوت ولا يخضع للعقل .الخوف الذي يسحق ويصم ويعمي ، لقد تبعني عبر الممر وحاولت محاربته في الغرفة ، وعدت إلى الصمت وتحسست ضمادتي ؛ فقال الرجل : نعم عرفت أنه كذلك ، قوة الظلام إنه يجول هناك أبدًا ، يتبعك عبر الدهاليز فلا تجرؤ على الالتفات ، إنه الخوف .الخوف الأسود الذي يختفي خلف الستائر والأبواب ، ويمشي خلفك أينما وجهت وجهك ولسوف يبقى ما بقي هذا البيت المفعم بالآثام .