كانت تنتظر قدومه كل يوم حتى الانسدال لم تشعر يومًا بيأس تسللها ، اليقين رسم لها دائمًا طريق العودة ، مزجت بصرها بأشجار الزيتون الوارفة ، أرسلت الأمل داخلها ، عله يخرج من بينها مزيجًا أغصانها كاشفًا عن وجهه ، غاصت أصابعها في رأس ابنتها فاطمة ، تداعب خصلات شعرها المجدول ، تتساءل عنه كثيرًا ، عن صورته على الجدار ، متى رحل ؟ ومتى سيعود ؟ هل كان يداعبها في مهدها ؟ أكيد قد تبدل وجهه كثيرًا ! تتراكم الأسئلة فوق جسدها الرقيق ، تشعرها بالدفء ، تنام ..الأم والصغيرة والرحيل :
الأم تنتظر المؤذن تدعي ، وتصلي تتوسل ، وتبكي تنام أحضان الأمل ، كست جسدها بثياب المدرسة ، جدلت ضفائرها بعد أن نقضتها بالأمس ، ناولتها حقيبتها الصغيرة ، قبلته بين عينيها ، أكدت عليها التقام الطعام ، فتركت لها علامات الطاعة قبل الرحيل ، غابت مع الصغار وسط بقايا منازل الشارع المظلم .سنوات وذكريات :
وحيدة بين أطلالها المتناثرة في كل مكان ، هنا كان يجلس لتناول الطعام ، بهذا الركن كان يصلي ، على هذا الكرسي قص عليها جميع همومه وأفراحه ، جلبابه الأبيض يتدلى هناك ، ينتظره ليطوف بين طرقات المدينة ، رائحته تملأ المكان فأبقاها على حالها ، وجهه يقف أمامها كظل شع من جسدها النحيل ، سنوات التهمت فراشه الدافئ فصار لهبًا يكويها ، عاد الخوف يدك قلعتها ، نظرت نحو الباب القديم ، فغزت آذانها طرقا وطرقات وطرقات ..أشلاء الباب المتناثرة :
سقط الباب ، وتهشمت عظامه ، انتزعوه من راحة يومه الشاق ، جرجروه وسط صرخات وتوسلات صغيرته المفزوعة ، مسكت بأطراف جلبابه ، تمزق .. تمزق جسدها تحت وخزات البنادق قاوم أغلالهم ضربوه على رأسه وأغشي عليه .داسوا أشلاء الباب المتناثرة بأحذيتهم الضخمة ، تركوها دون باب يسترها ، يداري عورتها ، تعازي الجيران تجمعت حولها ، الكل يواسيها بما وصلت إليه من حال ، لملموا هشيم الباب ، أقاموه كما كان بين الجدار ، عادت إلى جروحه المندملة ، طرقات ..طرقات .. طرقات ..الملثم وبشير الخير :
عناكب الخوف شدت خيوطها حول رقبتها ، أسرعت بفتحه ، كان رجلاً ملثمًا يحمل بين عينيه ملامح الحياة ، طمأنها .. لا تخافين لست منهم ، قالت : من أنت وماذا تريد ؟ ، أجاب : أنا بشير خير ، قالت : خيرًا ؟ أجابها : غدًا سيأتي زوجك ، قالت : زوجي ! سيعود ! كيف سيعود ؟ أجابها : غدًا عند الغروب ستقف الحافلة على الجسر .عودة حافلة :
بين الشك واليقين تتهاوى ، الأمل القابع بين أشجار الزيتون ، يزحف نحوها ، تذكرت فاطمة ابنتها ، وتساؤلاتها التي لا تخمد ، هل آن لها أن تهدأ وتستكين ؟ يعود الشك إليها ، تنفضه عنها ، رائحته تزيد انتشارها في المكان ، جلبابه الأبيض يرفرف فوق المسمار، أشياء المنزل ترقص فرحًا من حولها تمدد الخبر للجيران ، التهاني تنساب .استعانت بعضًا من الأواني الفخارية ، ستصنع له أفضل ما يحب من طعام ، تعرض مساعدات الجيران ، البيت يمتلئ بالنساء ، يصنعن الكعك المنقوش ، تتقافز فاطمة مع أطفال الحي ، يمتلئ صدرها الصغير بشوق اللقاء ، من تنتظره سوف يعود ، أخيرًا ستترك الصورة المتجمدة بخيالها المكنون .