قصة جنية البحر

منذ #قصص عالمية

حمل شبكته وخرج ليصطاد كان يتمنى أن يرجع اليوم بصيد كبير، لم يأكل منذ ثلاثة أيام تطلع للشباك بترقب يكاد يصل إليها لن يتحمل الجوع أكثر من ذلك ، كثيراً ما مرت عليه أيام مماثلة يخرج ويرجع خالي الوفاض ، ولكنه يمني نفسه اليوم بصيد وفير يعوض به جفاء البحر طيلة الأيام الثلاث الماضية ، وإلا سيضطر إلى بيع شباكه و كل ما يمتلكه من حطام الدنيا .

نبذة عن المؤلف : قصة من روائع الأدب الأوزبيكي ، للكاتب الشهير البارز : جولبان عبد لحميد سليمان أوغلي ، ولد في عام 1887م في أنديجان لأسرة مثقفة ، ساهم في تطوير الأدب الأوزبيكي مساهمة كبيرة ، كما قام بترجمة مسرحية هاملت لشكسبير للغة الأوزبيكية ، من أشهر مؤلفاته : أسرار الصباح ، الينابيع ، توفي عام 1938م .

شباك خاوية : بدأت الشمس تظهر في الأفق وتعكس أشعتها المبكرة على سطح الماء ، رمى الشباك لأول مرة فعادت إليه خاوية ، عاود المحاولة بجهد أكبر وفي كل مرة تخرج له كما رماها كأنما تعانده ، زاد القلق بداخله مع مرور الساعات بلا جديد يحمله إليه البحر، قرص الشمس الآن يتوسط السماء ، وحرارته تلهب جبينه والبحر الواسع يصر على أن يبخل عليه برزقه ، واصل العمل بجهد مضاعف حتى أوشك النهار أن ينقضٍ ، ولكن ما زال البحر يقف ضده بإصرار ، تطلع لصفحة المياه بإحباط لا مفر إذن من بيع الشباك .

محاولة أخيرة وجنية البحر : لم يشعر الصياد بمرور الوقت إلا عندما بدأ يرى الأشياء بصعوبة ، حتى لو اصطاد الآن ، لن يتمكن من بيع سمكه بعد أن انفض سوق السمك ، ومع ذلك قرر أن يرمي الشباك للمرة الأخيرة بدافع اليأس ، تركها في المياه لمدة أطول ، ثم جلس بجوارها يفكر يرسم أحلاماً لعلها تنسيه جوعه ، تمنى لو تخرج له في تلك اللحظة جنية البحر لتنقذه .

جنية البحر : كثيراً ما سمع البحارة يتناقلون أخبارها ، تخرج في أي صورة لصاحبها لم يرها أحد من قبل على الأقل ممن يعرفه ، لكنهم يزعمون أنها تلبى لصاحبها كل مطالبة ، هكذا كانت الأسطورة تتناقل ، تمنى الصياد لو تخرج له وقتها فيطلب منها طعاماً وشراباً ولا بأس ببعض المال ، يريد أن يسكت أنين معدته ويشعر بدفء جيبه بعد طول فراغ .

حلول الظلام والأحلام : أفاق من تأملاته بعد أن بدأ الظلام يبسط أرديته القاتمة على المكان ، أسرع بإخراج الشباك من البحر لا يدرى هل هو من تأثير الجوع ، أم من حرارة الشمس التي ألهبت رأسه طوال النهار ، أخرج الشباك بحماس وهو يتوقع أن تخرج معها جنية البحر يتصورها امرأة جميلة ذات شعر طويل أصفر ولها ذيل سمكة ، عيونها زرقاء بلون البحر تسحر من يراها هكذا كانت والدته تصفها عندما تحكى له عنها .

خيبة أمل : سحب الشباك بقوة وقد دب نشاط مفاجئ في جسده ، ولكن الشباك عادت إليه خاوية تماماً كمعدته ، شعر بقليل من خيبة الأمل لكنه سرعان ما أفاق من أحلامه لم يعد يستطيع رؤية يديه بسبب الظلام أسرع بطريق العودة إلى الشاطئ ، سيبيع الشباك الآن ويشترى بثمنها طعاماً وقد يسهر على المقهى الليلة مع الرجال .

سمكة صغيرة ليس لها مثيل : رسا بالقارب بدأ يلملم شبكته عندما لاحظ شيء ما خطف أبصاره ، شيء لامع تنعكس أضواء الشاطئ البعيدة عليه فتجذبه ، أقترب من القارب سمكة صغيرة ، لم يرمثلها من قبل يبدو أنها علقت في الشباك .

ولم يلحظها بسبب صغر حجمها تطلع إليها بفضول ألوانها زاهية لا مثيل لها ، تتلوى على أرضية القارب المغمورة بقليل من الماء الراكد ، وهي تكاد تختنق أسرع إلى البحر فملى دلو من المياه وألقاها فيه ، قال لنفسه في سخرية : بدلاً من جنية البحر تخرج لي أحد أسماك الزينة ، لن أستطيع أن آكلها ولكن ربما أبيعها لأحد تجار سمك الزينة وأحصل على بعض المال .

بيع الشباك : حمل شباكه وتوجه إلى أحد التجار فباعها له ، وبعد جدال طويل لم يحصل على السعر الذي يرضيه ، ولكنه تحصل على ما يسد جوعه ، تذكر السمكة الملونة عاد إلى القارب حملها معه ، وتوجه بها إلى بيته وفي طريقه اشترى طعاماً وسجائر .

شيء ما جذبه إلى السمكة : وصل بيته شبه المتداعي حاول أن يشعل المصباح ، ولكنه كان قديم ومتهالك ، حاله مثل حال كل شيء آخر في البيت ، لم يستجيب المصباح لمحاولاته سوى بعد جهد بضوء خافت ، جلس وهو ناقم ثم تطلع للسمكة وأدهشته أشعة المصباح الضعيفة التي كانت تنعكس عليها فيغمر جسدها الضياء .

لم يرى سمكة من قبل بهذا الشكل ، دنى منها ولاحظها وهي تتحرك بلا نظام في كل اتجاه ، عاودته آلام الجوع فأخرج الطعام وبدأ يتناوله ، وهو يتسلى بمراقبة السمكة بألوانها الغريبة ،التي لم يشاهد مثلها من قبل ، أنهى الطعام بسرعة كان ينوى أن يتوجه للمقهى الليلة ولكن شيء ما جذبه إلى السمكة .

صباح يوم جديد : ظل طوال الليل بجوارها يتطلع إليها بإعجاب ونام دون أن يدرى ، استيقظ الصياد في الصباح نشطاً ، كانت السمكة ما تزال في مكانها وبقايا الطعام تملأ المكان ، قال لها : صباح الخير ، لا بد أنك جائعة ، تثاءب ثم ارتدى ملابسه ، وتوجه للبحر وهناك أستقبله مركب على وشك الخروج ، لحق به كصياد أجير، وعندما وصل المركب لعرض البحر رمى الصيادين الشباك انتظاراً للرزق .

الرزق الوفير : بدأ يحكي لزملائه عن السمكة التي اصطادها بالأمس ، اندهش البعض فلم يرى أحداً مثلها من قبل ، اقترحوا عليه أن يبيعها لأحد تجار سمك الزينة ، لعله يجني من ورائها بعض المال ، أخرج الصيادين الشباك التي كانت ممتلئة على أشدها بالأسماك ، لم يتوقع الصيادين أن يكون البحر كريماً لهذا الحد رموا الشباك أكثر من مرة وفي كل مرة خرج الصيد وفيراً ، وعلى غير العادة كان المكسب وفيراً ، ونصيبه كذلك فلكل صياد على المركب نسبة من الربح .

طعام للسمكة الصغيرة : لأول مرة يتحصل على مثل هذا المبلغ من عمله كصياد أجير ، وعندما توجه للشاطئ أشترى طعاماً كثيراً ، تذكر السمكة الصغيرة وجلب لها طعاما أيضاً ! وأسرع بالعودة إلى منزله ، ذهب للاطمئنان على سمكته والتي كانت حركتها بطيئة ، رمى لها بالطعام ولكنها لم تأكل .

ضايقه الأمر ثم دنا منها وجلس بجوارها وتطلع إليها ، سألها فجأة وكأنها تفهمه ، فقال : لما لا تأكلين هل الطعام لا يعجب ؟ ، أطلق الصياد تنهيدة قصيرة ثم أستكمل ، وقال : عندما كنت صغيراً كانوا يقدمون لي أحياناً أيضاً طعاماً لا أحبه ، ولكني سأحضر لك طعاماً أفضل المرة القادمة .

شريكة الهموم : كان وحيداً يشتاق لمن يسمع منه ، وبدأ يشعر أنها تسمعه وتشاركه همومه ، وهو يحكى لها عن طفولته وعن أحلامه ، كان يفسر كل حركة من جسمها على أنها إيماءة ، ويرى كل التفاتة على أنها استجابة لحديثه ، ولأول مرة ينتابه الشعور أن أحداً يشاركه همومه ، أو هكذا خيل له ، لم يكن له أصدقاء يوماً أو زوجة أو أولاد .

لم يعتاد أن يفتح قلبه لأحد ، الغريب أنه كان يسخر من قبل ، عندما يتفاجئ بجارته المسنة تحدث قطتها كل صباح بعد أن هاجر كل أبناءها بحثاً عن رزق تعذر الحصول عليه في قريتهم المعدمة ، لم يكن وقتها يفهم سبب سلوكها بل ويستهزأ بها وها هو يقلدها!.

تكلم كثيراً وفي النهاية نام بجوار السمكة .

صباح يوم جديد : أستيقظ في الصباح متأخراً ، ذهب إلى الشاطئ مسرعاً ولكن لم تعد هناك مراكب لم يكن يستطيع الخروج بمركبه الفارغة من شباك الصيد ، وفي النهاية قرر أن يمضى بقية اليوم في المدينة للتسكع ، ولشراء بعض الأغراض ، وأثناء تجواله مر بأحد محلات أسماك الزينة ، ثم دلف إلى الداخل ووصف للبائع شكل السمكة الصغيرة التي اصطادها ، هز صاحب المحل رأسه في حيرة ، قائلاً : أنه لم يرى من قبل سمكة بذلك الوصف ، ربما تكون سمكة نادرة .

النجاة من الكارثة : عندما رجع لقريته وصلته الأخبار المؤسفة ، البحر الهائج انتابته نوبة غضب معتادة عصفت ببعض المراكب على الشاطئ ، لمح الصياد بعض أهالي القرية يتطلعون للبحر في حالة ترقب وحزن ، فكر الصياد وقال: هل كانت مصادفة أنه لم يخرج اليوم للصيد ، عندما عاد لبيته في المساء مرهقاً توجه لرؤية السمكة ، لاحظ أن حركتها بطيئة !.

رمي لها الطعام ولكنها لم تأكل منه أيضاً ، خاطبها بحسرة وقال لها : سأشتري حوض السمك الذي يليق بك بمجرد أن يتوافر لدي المبلغ الكافي ، أعدك بهذا ، ظل الصياد بجانبها طوال الليل يحكي لها عن يومه .

تعلق الصياد بالسمكة الغريبة : يوماً بعد يوم كان حبه لها يزداد حتى أصبح جنوناً ، يخشى أن يبرأ منه ، يخاف عليها بشده يبقيها بجواره حين ينام ، حتى تكون أول شئ تقع عيناه عليه حين يستيقظ ، يقضي النهار يعمل بكد على المراكب وبقية ليله في المنزل معها ، كان صيده وفيراً على غير العادة ومكسبه كذلك ، أشترى شباكاً جديدة وعاد للصيد على مركبه مجدداً يشترى مما يكسبه احتياجاته البسيطة ويدخر الباقي ليبتاع حوض السمك الذهبي كما تعهد على نفسه .

موت السمكة : مرت أسابيع ، وفي أحد الليلي عندما عاد إلى البيت لاحظ أن سمكته راقدة في القاع وحركتها أبطأ من ذي قبل ، أنقبض قلبه وتطلع إليها فزعاً دون أن يدري كيف يتصرف ، أعتراه الخوف ووقف بجوارها عاجزاً ، راقب حركتها وقد بدأت تخمد وألوانها الزاهية تفقد بريقها تدريجياً ، شعر بالفزع ولأول مرة منذ فترة طويلة يشعر بالخوف يجتاحه ، خاطبها في توسل وقال : أرجوك أبقى بجانبي ، لا ترحلى ، سأبتاع لك الحوض الذهبي .

أسرع إلى الصندوق الذي يدخر فيه أمواله جذبه بعنف ، كان ممتلئاً إلى منتصفه تقريباً بالمال ، لم يكن يتوقع أنه أدخر كل هذا المبلغ ، قال لها: أنظرى جمعت مالاً كثيراً من أجلك ، سأشترى ما تريدين ، ولكن أبقي بجانبي ، ولكن سمكته واصلت رحلة خمودها .

وداع الصياد لسمكته الصغيرة : كاد الصياد أن يجن ، شعر بضعفه للمرة الأولى حين أدرك أنها حلت بعيداً خارج عالمه ، لم يكن ضوئها يملأ المكان ، راقدة في القاع بلا حركة ، أخرجها من الماء ثم أعادها إليه بيد ترتعش، ظل طوال اليوم بلا طعام ، بلا راحة لا يكاد يتحرك من مكانه ، وقرر أن يعود بها من حيث أتت .

استقل قاربه وذهب لعرض البحر إلى أبعد مكان يمكن أن يصل إليه ، رماها برفق في البحر فلم يشعر إلا بقليل من العزاء ، عندما رجع إلى بيته كان متعباً بشدة ، جلس على كرسيه بلا حركة تذكر أنه لم يأكل من الأمس ، نظر للمبلغ في الصندوق الخشبي ، المبلغ المخصص للحوض الذهبي ، أخرجه ببطئ وأحصاه مبلغاً كبيراً حقاً ، أدخره ولم يتوقع أن يتحصل عليه يوماً ، فكر ماذا يفعل بكل هذا الكم من المال ، كان ينوى أن يشتري الحوض الذهبي لسمكته ، قال بعزم وكأنه يتخيلها أمامه : سأكون إنساناً جديداً، لن أخذلك .

إنسان جديد ناجح : وفي الصباح توجه الصياد للشاطئ ، وقد صمم على فكرة ما طالما راودت خياله مسبقاً ، أشترى مركباً أكبر من مركبه وشباكاً جديدة وطعاماً بوفرة ، واستأجر اثنان من الصيادين ، وقرر أن يذهب فجأة إلى عرض البحر ، إلى أبعد نقطة ممكنة ، حيث لم يتجاوزها صياد .

مخاطرة وربح وثراء : أقنع الرجال معه بالمخاطرة وظل في البحر يوماً كاملاً ، كان يصطاد بلا كلل وعندما عاد كان المركب ممتلئاً على غير العادة ، غامر وربح فالسمك أوفر في عرض البحر كما توقع تماماً ، ظل هكذا أكثر من عام ، كان بعض الصيادين يرون أنه مجنون ليخاطر بحياته في عرض البحر الممتد كصفحة بلا حدود ، لم يعتاد أحد الذهاب إلى هناك من قبل يخافون من غدر المياه!.

قال الصيادين عنه أنه مجنون ، ولكنهم في الواقع كانوا معجبين به ، كان رزقه كثيراً على غير المألوف وعندما يعود يلزم بيته ينام ساعات قليلة ثم ينطلق في الصباح مرة أخرى.

نجاح وزواج وأبناء : أستيقظ يوماً وقرر أن يغامر بفكرة جديدة ، ذهب إلى المدينة وأستأجر سيارة كبيرة ، وقرر أن ينقل بها السمك إلى المدن البعيدة عن الشاطئ ، حيث لا يوجد السمك بوفرة ، كانت فكرته جيدة ، وربح الكثير من ورائها ، وبعد عدة سنوات كان قد ذاع صيته .

تزوج الصياد وقرر أن يبدأ مشروعاً أخر ، شارك اثنان من تجار القرية الأثرياء ، وقام بافتتاح مطعم للأسماك في المدينة ، استعان بعدد من النساء والأرامل في قريته ممن أبتلع البحر منهم في نوبات غضبه المعتادة رجالهم ، فسدت أمامهم كل منافذ الرزق .

مطعم جديد : من أفضل من زوجة صياد لطهى الأسماك على أي حال ، خسر في الشهور الأولى حتى فكر في التخلي عن فكرته ، ولكن سرعان ما تحولت خسارته إلى مكسب بعد أن بدأت جودة ما يقدمه تلفت الأنظار ، وتفرض نفسها في السوق ، بعد خمس سنوات كاملة افتتح الفرع الثاني له ، ثم الثالث بعد عامان ، واشترى سيارة جديدة لنقل الأسماك بدلاً من سيارته القديمة المتهالكة .

بعد مرور سنوات : توقف عن الصيد وتفرغ لأعماله التي تتسع يوماً عن يوماً لتلتهم معظم وقته ، سنوات كثيرة تواترت عليه وهو يعمل بلا توقف حتى أضحى اسمه في كل مكان وكبرت ثروته ، أنشأ نقابة للصيادين لتعينهم على الحياة ، وقام ببناء بيته الكبير وسط قرية الصيادين الذين أحبهم وأحبوه ، وأنجب العديد من الأبناء وبدأ الشيب يغزو شعره ووهنت عظامه ، ملأ المرض جسده ببطء فبدأ يستسلم له.

الشاطئ وجنية البحر : ذات يوم جذبه الحنين للبحر الواسع ، وقف على الشاطئ يتطلع للمياه ويسترجع ذكرياته كلها ، تذكر السمكة الصغيرة التي منحها البحر الغامض له ، عندما كان يحلم بجنية البحر كي تحقق كل أمانيه ، لم ينسى أن المبلغ الذي أدخره ليشتري لها حوضاً ذهبياً ، هو الذي بدأ به حياته ، هاهو قد حقق كل أمنياته حتى لم يعد في جعبته المزيد من الأحلام ليسعى وراءها .

ابتسم قليلاً وقال : هل كانت السمكة هي جنية دفعته لتحقيق أحلامه بنفسه ، أم تراها هي أوهام ترسخت في خياله بفعل سطوة أساطير قديمة لم يعد يقبلها العقل !.

تطلع مرة أخرى للبحر الغامض الممتد أمامه بلا حدود ، حائراً دون أن يجد إجابة .

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك