قصة روالد هوفمان

منذ #قصص عالمية

عالم جاف؟

روالد هوفمان هو الصورة الأكثر تناقضاً مع الشخصيّة التقليديّة للعالِم "الجافّ"، الذي يرتدي ثوباً أبيضَ ويهتمّ بالجزيئات والمعادلات فقط.

يشهدُ على عظمَته كعالِمٍ فوزه بجائزة نوبل التي حصل عليها عام 1981، عِلماً أنّه يعمل، أيضاً، في تعميم العِلم بأعمق مستوياته، كما إنّه شخصٌ كرّس نفسه لراحة البشريّة.. وهو، أيضاً، شاعرٌ ناجح.

تعكسُ خلفيّته بشكلٍ ملخِّص، التاريخ الحديث ليهود أوروبا الشرقيّة، وَلِدَ هوفمان في زولوتشيف، بالمنطقة المعروفة باسم "مجمع الموشاف" الخاصّ باليهود.

عندما وُلِدَ والداه كانت هذه القرية تابعة لإسوترو-هنغاريا، وعندما وُلِدَ هو كانت جزءاً من بولندا، أمّا اليوم فتقع القرية في نطاق أوكراينا.

أُبيدَت عائلته الموسَّعة، "العائلة اليهوديّة السعيدة"، أثناء الاحتلال الألماني. نُقِلَ هوفمان نفسُه مع والديه إلى الجيتو، وبعدها إلى معسكر العمل. تمكّن أبوه من تهريبه وأمَّه إلى خارج المعسكر، ليخبّئهما، بعد ذلك، رجلٌ أوكرانيّ طيّب القلب، في عِلِّيّةِ مدرسةٍ، إلى أن قام الجيش الأحمر بتحرير المنطقة عام 1944.

أمّا الأب الذي بقيَ في المُعسكَر، فقد أعدمَهُ النازيّون، لأنّه حاول تنظيم عمليّة هروب كبيرة من المعسكر.

بعد مرور وقتٍ معيّن، تمكّنت الأم وابنُها من إيجاد طريقٍ إلى تشيكوسلوفاكيا، النمسا وألمانيا، ومن هناك إلى الولايات المتّحدة. هنا، أصبحت اللغة الإنجليزيّة هي اللغةَ السادسة عند روالد هوفمان، اللغةَ التي سيكتبُ بها كلّ أعماله العِلميّة، وشِعرَه أيضاً.

علم مع مسؤولية

ِاعتقدَ هوفمان أنّه ينبغي على العلماء تحمّل مسؤوليّةٍ كاملةٍ عن تأثيرات اختراعاتهم على بني البشر، على المجتمع والبيئة، وأيضاً، تحمّل المسؤوليّة الكاملة في حال أثّر الأمر على تحصيل لقمة عيشهم أو حتّى أن كان سبباً في تعرّضهم للإساءة والإهانة.

أثارت جودة الحياة قلقه أكثر من الحياة نفسها، شاركَ، خلال سنوات السبعين، في نقاشٍ أُثيرَ في أعقاب "أزمة الثاليدوميد"، ودعمَ بحماسٍ إجراء فحوصاتٍ أكثر دقّةً للأدوية الجديدة والإشراف عليها بشكلٍ أكثر صرامة، قال إنّه يفضّل المُخاطَرة بـ"مئات" الأنفس على أن يجلبَ إلى العالَمِ طِفلاً بتشوّهاتٍ خُلُقيّة حادّة.

كان الثاليدوميد عبارةً عن دواءٍ مُسكِّن، بعد سنواتٍ على استخدامه تبيّن أنّه لو أُعطيَ للنساء الحوامل، فإنّه يمكن أن يُسبّب، في بعض الأحيان، تشوّهات خُلُقيّة حادّة لدى المواليد، مثل أن يعاني الوليدُ من نقصٍ أو التواءٍ في الأذرع أو السيقان.

ادّعت شركات الدواء، وعددٌ غير قليلٍ من العلماء والأشخاص أنّ إجراء فحصٍ أكثر دقّة للدوّاء يمكن، فعلاً، أن يحول دون وقوع مآسٍ من هذا النوع، ولكنّ التأجيل الذي سينتج عن عمليّة التصديق على الأدوية الجديدة (بشكلٍ عامّ) يمكن، في بعض الأحيان، أن يُكلّف بحياة أشخاص.

العلم والشعر

يُلامِسُ شِعرُ هوفمان العِلمَ في بعض الأحيان، ولكن فقط من زاويةِ الثقافة الإنسانيّة.

يكتب هوفمان الشِّعرَ لأنه يرى أنّ "فهمَ العُلماءِ لظواهر الطبيعة أعظم من فهمِ الشُّعراء لها، هي نظرةٌ خاطئةٌ بكلّ تأكيد"، فعندما يَرِدُ العِلمُ في شِعرهِ، فإنّه يَظهرُ في سياق العلاقة القائمة بين العِلم والقيَم الإنسانيّة.

تناظرات وإلكترونات

إنّ المُساهمة الأهمّ التي قدمها هوفمان في مجال الكيمياء هي بناء إطارٍ نظريّ لوصف مجموعة متنوعة من ردود الفعل الهامّة، التي لم يكن من الممكن التنبّؤ بسلوكها قبل ذلك.

طوّر هوفمان نظريّات ترتكزُ على التناظر، وألحقّها بحساباتٍ (فيزيائيّة) من مجال ميكانيكا الكمّ، التي تتناول سلوكَ الإلكترونات التي تُحدِّد الصفات الكيميائيّة للجزيئات، إنّ هذا الدمج بين نظريات التناظر والحسابات الكميّة، ساهمَ في فهمِ الخصائص التركيبيّة الأساسيّة للجزيئات غير العضويّة من كلّ نوع.

انطوَت هذه الأبحاث على أهميّةٍ كبيرةٍ من حيث القدرة على التنبؤ، وأدّت في أعقاب ذلك إلى إجراء عددٍ كبيرٍ من الأعمال التجريبيّة الإبداعيّة.

قام هوفمان، مؤخّراً، بتطبيق طُرقه أيضاً على بحث الحالة الصلبة، وخصوصاً على التفاعل بين المواد المختلفة مثل الميثان والسبائك المعدنيّة. أثناء عمله، اكتشف هوفمان عدم الثقة المتبادَل القائم بين عُلماء الفيزياء وعُلماء الكيمياء، وعلّق على ذلك قائلاً "حاولتُ تعليمَ جماعة الكيمياء كم هي بسيطةٌ المصطلحات في مجال الفيزياء المتعلّقة بالحالة الصلبة، وحاولتُ أيضاً، وقد كان ذلك أكثر صعوبةً بكثير، إقناع عُلماء الفيزياء بأنّ هناك قيمةٌ لطُرق التفكير الكيميائيّة".

المحبة والتقدير

إنّ ولع هوفمان بالكيمياء أدّى إلى مساهمته الكبيرة لـ"الكيمياء النظريّة التطبيقيّة".

تُعتبر مُساهماتُه عميقة الأثر، وقد حظيت باعترافٍ واسع، عِلماً أنّه يفخرُ، بشكلٍ خاصّ، بكونه مُعلِّماً جيّداً، كما يشهد على ذلك جيلٌ كاملٌ من العُلماء الشباب الناجحين.

روالد هوفمان – عالِمٌ، مُعلّمٌ، شاعرٌ وإنسان مُفعَمٌ بتقدير كلّ البشر أيّاً كانوا – يُمثّل، بشكلٍ أفضل، ما فشِلَ هتلرُ في محوه من الوجود.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك