قصة ديفيد بروستر

منذ #قصص عالمية

للتناظر قوة جذب كبيرة في عيون البشر

يُعتبر التناظر بمثابة وضع "طبيعيّ" - حيثُ يبدو أنّ الطبيعة تخلق أشياء متناظرة، عدا عن الحالات التي ليس لديها سببٌ جيّد يستدعي أن تكون تلك الحالات متناظرة.

تتميّز أغلبية الأزهار بتناظرٍ دائريّ، أو، على الأقلّ، بتناظر يمين-يسار. أمّا الحيوانات فليس لديها تناظرٌ دائريّ، ويعودُ ذلك لسببٍ جيّدّ: تحتاج إلى تركيز حواسّها وأعضائها في النشاط والتحرّك قدماً، لكن يتوافر لديها جميعاً، بهذا القدر أو ذاك، تناظرُ يمين-يسار.

عندما بدأ ديفيد بروستر عام 1814 يلعبُ بالانعكاسات المتعدّدة عبر استخدام أزواج من المرايا - لأهدافٍ مختلفة تماماً – أدرك، بشكلٍ تدريجيّ، أنّه إذا تمكّن من استقبال انعكاسات متعدّدة ومُتماثِلة؛ انعكاساتٍ هي عبارة عن صوَر مرآة الواحدة للأخرى، فإنّه يستطيع أن يُنشئَ صوَراً مُتناظرة تُعتبر "جميلةً" من غير أن تكون لها علاقةٌ، تقريباً، بالأجسام التي تظهر فيها.

عندما أنهى بروستر بناء الجهاز، قال - دون كثير من التواضع ولكنّه كان دقيقاً في كلامه - إنّه "من غير الممكن ألاّ نفهمَ أنَّ هذا الجهاز سيُثبتُ نفسه على أنّه جهازٌ عمليٍّ لا مثيل له في كلّ فنون التزيين، وسيتحوّل في الوقت نفسه إلى جهاز شعبيّ يُستخدم لأغراض التسلية الذهنيّة".

أطلق عليه اسم "كلايدوسكوب" (مِشكال)، وأصل هذا الاسم يعود إلى كلمة يونانيّة تعني "شكلٌ جميل المنظر". لكنّ، لسوء حظّه، فقد كان منفعلاً ومتحمّساً لاكتشافه هذا حتّى راحَ يصفهُ من فوره ويعرضه على الملأ.

وهو بفعله ذلك فقد جعلَ معرفتَهُ "معرفةً عامّة"، ولذلك، فعندما أراد إصدارَ براءة اختراعٍ للجهاز، رفضَ مكتب براءات الاختراع تسجيل براءة اختراع الجهاز على اسمه.

فلو لم يقم بصنيعه هذا، لكان تمكّن من جمعِ ثروة هائلة، فقد تمّ بيع 200.000 جهاز كهذا في لندن وباريس خلال ثلاثة أشهر من يوم إعلان الاختراع، كانت شعبيّة الجهاز كبيرةً جدّاً، لدرجة أنّه بعد مرور نحو سنتيْن، ذكر الشاعر لورد بايرون اسم الجهاز في شِعره، كاستعارة للجَمال المُتعدِّد الأوجه.

المِشكالُ البسيط مُكوّن من أنبوبٍ في داخله مرآتان طويلتان، وعدسةً في بعض الأحيان؛ تركيبه سهل، عِلماً أنّه يتطلّب دِقةً معيّنة أثناء عملية التركيب، غير أن فهمَ طريقة عمله تعتبر أكثر صعوبةً...

كان بروستر شخصاً ذا مجالات اهتمامٍ واسعة، كتبَ سيرة حياة هامّةً عن نيوتن، وكانت اكتشافاته العلميّة الأكثر شهرةً هي تلك المتعلّقة بخاصيّة من خواص الضوء تُدعى "الاستقطاب".

الضوء المستقطَب

ما هو الاستقطاب؟ كان نيوتن قد طرحَ الفكرة في السابق: موجات ضوءٍ أشبه ما تكون بـ"ثعابين مائيّة متموِّجة الحركة"، أو الموجات المتقدّمة على طول الحبل.

تصوّروا حبالاً تمرّ عبر حواجز متوازية، ينبغي على الحبل أن يمرّ، بالضبط، في الفراغ القائم بين الحواجز.

على نحوٍ مماثل، توجد للموجات تذبذبات في اتّجاهٍ معيّن، وعندما يكون اتّجاه التذبذبات مقابلا للفراغ الذي بين "الحواجز" في المادّة، فإنّ الموجات تمرّ عبره.

إذا كان اتّجاه التذبذبات عموديّاً بالنسبة للموجات، فإنه لا يتمكّن من المرور عبرها. في الحقيقة، إنّ الضوءَ الذي تنطلق تذبذباته في كلّ اتجاه هو "ضوء غير مُستقطَب".

الطريقة الأسهل للاستقطاب هي تمريره عبر سلسلةٍ من "الحواجز".

على كلٍّ، بما أنّ مركّبات الضوء صغيرةٌ للغاية، يجب على "الحواجز" أن تكونَ عبارة عن جُزيئات منفردة، لكن لم يتمّ اختراع تقنية صنع موادّ من هذا النوع إلا في عام 1930 حينما اخترع إدوين لاند هذه التقنية وهو لا يزال طالباً في الكليّة، وقد أطلق على هذه المادة اسمَ "بولاريد" وصنع منها ثروةً هائلة (اخترع لاند، أيضاً، آلة التصوير مع تبييض الصور الفوريّ).

عام 1690، اكتشف هوغنس أنّ في الإمكان تفكيك الضوء إلى مركّبات مُستقطبة بواسطة بلّور من كربونات الكالسيوم، وعام 1801، اكتشف مالوس أنّ الضوءَ غير المُستقطَب يُصبحُ مُستقطَباً عندما ينعكس.

تُعتبر هذه الحقيقةُ عمليّةً جدّاً للسائقين، وخصوصاً لصيّادي الأسماك، من خلال الاستعانة بمصافٍ تكون مصنوعةٍ عادةً من مادّة اصطناعيّة تُدعى بولاريد، يمكن حجبُ معظم الضوء المنعكس من الشارع أو من مساحة الماء الداخليّة، وبالتالي يصبح في الإمكان تخفيف حدّة الضوء المتوهج في عيون السائقين، كما يمكن لصيّادي الأسماك رؤية الأسماك الموجودة تحت سطح الماء.

اكتشف بروستر أنّ درجة استقطاب الضوء المنعكس تتعلّق بزاوية الانعكاس. حيث تتعلّق زاوية الاستقطاب القصوى، التي يُطلق عليها الآن "زاوية بروستر"، بخصائص فيزيائيّة للمادّة العاكسة للضوء.

الخاصيّة الهامّة لهذه الحقيقة أتاحت إجراءَ قياسٍ غير مباشرٍ لمُعامِل الانكسار الخاصّ بموادّ كامدة ومعتمة بالكامل تقريباً، مثل المعادن.

لقد سبق أن قلنا إنّ بروستر كان شخصاً يتمتّع بمجالات اهتمام واسعة، ولكنّه سيُذكر، في الأساس، بفضل اكتشافه المُسلّي والشّعبيّ دائماً: المِشكال.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك