قصة جوزيف هنري

منذ #قصص عالمية

من اخترع التلغراف؟

عندما أنظر حولي، يُخيَّل إليّ أنني واحدٌ من الأشخاص الذين لم يشتروا هاتفاً خلوياً إلا مؤخّراً!

لا شكّ: لقد وصلت الثورة التكنولوجيّة العالميّة إلينا! ولكنّ جذورَ ثورة الاتصالات تعودُ إلى مطلع القرن التاسع عشر، إلى عهد اختراع وسيلة الاتصال التكنولوجيّة الأولى للمسافات البعيدة. لأوّل مرّةٍ في التاريخ، تم إرسال معلوماتٍ مركّبةٍ من كلماتٍ وجُملٍ إلى أماكن بعيدة، وبسرعة.

علّمونا في المدرسة أنّ صموئيل مورس Morse اخترعَ التلغراف عام 1837، بل إنّه سجّله كبراءة اختراع. بالفعل، كان مورس أوّل إنسانٍ يبعث رسالةَ بتلغرافٍ كان قد بناهُ بنفسِه، إلى مكانٍ يبعُد مسافة كيلومتراتٍ قليلة عن المكان الذي كان يسكن فيه.

لكن، قبل ذلك، عام 1831، أرسَلَ جوزيف هِنري بلاغاً إلى مسافةٍ ميلٍ واحدٍ عبر سلك. بل إنّه نشرَ مقالاً يصفُ فيه جهازه، مُشيراً فيه إلى أنّ عمل هذا الجهاز "يمكن توظيفه لبناء تلغرافٍ كهرومغناطيسيّ".

كيف نستطيع التوفيق بين هذه المعلومة وبين حقيقةِ أنّ مورس كان هو الذي حظيَ بالتقدير على اختراع التلغراف؟

فولطا (Volta)، أورستِد (Oersted) وستَرجون (Sturgeon

المركّبات الأساسيّة في التلغراف الكهربائيّ هي جهاز بثّ، قناة (سلك كهربائيّ) وجهاز استقبال.

جهاز البثّ هو مصدر التيار الكهربائيّ، وهو المحوِّل أو المفتاح الذي يُتيح تشغيل أو وقفَ حركة التيار على طول السلك. تكون الرسالة مُشفَّرة بنموذج التشغيل ووقف التشغيل الخاصّ بالتيّار.

يتعرّف جهاز الاستقبال على التيّار ويحوّله إلى بلاغٍ يمكن سماعه أو رؤيته، ومنه يكون في الإمكان "قراءة" الرسالة.

يبدو لنا التلغرافُ الكهربائيّ بسيطاً نسبيّاً، وذلك، بالطبع، مقارنةً بوسائل الاتصال التي لدينا اليوم. لكنّ الجهاز الذي اخترعه هِنري كان مُبتكراً للغاية حسب حيثيّات الربع الثاني من القرن التاسع عشر، فهو يرتكزُ على أبحاثٍ واكتشافاتٍ حديثة، حتّى وإنْ كان القصدُ منها الإجابةَ عن أسئلة بحثيّة أخرى، فإنّها مكّنت، في نهاية الأمر، من اختراع التلغراف.

حتّى نهاية القرن الثامن عشر، لم يعرف الناسُ إلا الكهرباء "الثابتة"، إذ لم تكن لها طاقةُ "السفر" على طول سلك إلى أيّ مسافةٍ جدية.

اكتشف جالفاني Galvani "كهرباء الحيوانات" (animal electricity)، ومن بعده جاء فولطا Volta ليطوّر المصدر الأوّل للكهرباء المتواترة، البطّاريّة، أو "مكدس الفولطيّة" Voltaic Pile .

وفّر مكدس الفولطيّة، أو ما جاء في أعقابه، تيّاراً كهربائيّاً قادراً على الانتقال إلى مسافاتٍ بعيدة، لكن، كيف يتم التعرّف على التيّار الضعيف القادم من مسافاتٍ بعيدة؟

تمّ بحث التأثيرات الكيميائيّة للكهرباء، مثل قدرتها على تفكيك المياه، بشكلٍ فوريٍّ بعد اختراع البطاريّة. نظريّاً، نستطيع الاعتقاد بأنّ في الإمكان استغلال تأثيراتٍ من هذا النوع للتعرّف على تيّارٍ يصلُ من مسافاتٍ بعيدة، ولكنّ هذه التأثيرات بطيئة وغير حسّاسة بما يكفي.

عام 1820، اكتشف هانس كريستيان أورستِد Oersted أنّ التيّار الكهربائيّ يؤدّي إلى تحريكِ إبرَةِ بوصلةٍ موجودة على مقربة منه. إنّ تحويل التيّار الكهربائيّ هذا إلى حركة ميكانيكيّة يُعتبر أساس كلّ مُحرِّكٍ كهربائيّ، حيث بات عمل ذلك أسهل بكثير بعد أربع سنوات، عندما اكتشف وليم ستَرجون Sturgeon المغناطيس الكهربائيّ.

يتألّف المغناطيس الكهربائيّ من قضيبٍ حديديّ يلفّهُ أنبوب. والآن، صار في الإمكان بناء تلغرافٍ عمليّ.

هل المخترع غير مكتشف؟

هنا يدخل جوزيف هنري إلى الصورة، رغم أنّه لم يخترع بطاريّة فولطا ولا مغناطيس ستَرجون الكهربائيّ، ولكنّ أدخل تحسيناتٍ جديّةً على كليهما.

عام 1931، نجح هنري في تشغيل رنّةِ جرَسٍ من مسافة ميل! فإذاً، لماذا لا يَعزون اختراعَ التلغراف لجوزيف هنري؟

الإجابة متعلّقة، كما يبدو، بحقيقة أنّ هنري كان مخترعاً قلباً وروحاً. بالنسبة إليه، كان التلغراف وسيلةً لإثبات مبادئ المغناطيس الكهربائيّ في محاضرةً كان قد ألقاها أمام طلاب، لم يحاول أبداً أن يحوّله إلى جهازٍ عمليّ.

أوجزَ مارك روطنبيرغ، كاتب سيرة حياة هنري، نشاط هِنري من جهة، ونشاط مورس من جهةٍ أخرى، بالكلمات التالية: "اعتبَرَ هِنري العالِم أن البحثَ الأساسيَّ مُحرّك لتطوير الرفاهية الاجتماعيّة، واعتبرَ أنّ التطويرات التكنولوجيّة ليست سوى تطبيقٍ لاكتشافاتٍ علميّة.

رأى في اكتشافاته فوائد لمجمّع المعرفة الإنسانيّة، حتّى أنّ كل من يجد فيها إمكانيّة تطبيقٍ عمليّ، يمكنه فعل ذلك على النحو الذي يشاء.

بالإضافة إلى ذلك، اعتمدَ هِنري على أنّ نشرَ عمله سيُكسِبُه احتراماً مهنيّاً ونجاحاً، بينما اعتبرَ مورس المُخترِع أنّ الاكتشافات العلميّة ليست سوى مسائل بسيطة وأساسيّة، إلى أن يُجسّدها شخصٌ مثله في ماكِينة من شأنها أن تحوّلها إلى مسائل ملموسة ومفيدة. من زاوية نظره هذه، محرّك التقدّم هو الاكتشاف، وليس البحث النظريّ".

في حقيقة الأمر لم يزعم هِنري العالِم أبداً أنّه هو الذي اخترع التلغراف.. لم يُرِد سوى أن يعترف مورس أنّه، أي هِنري، اكتشفَ المبادئ التي شكّلت القاعدة التي قام عليها التلغراف.

لكنّ مورس لم يكن مستعدّاً للاعتراف بذلك، خوفاً من أن تثار البلبلة بشأن تسجيل براء الاختراع على اسمه.. أدّى هذا الرفض إلى خلافٍ حادٍّ بينهما، خلاف لم ينتهِ أبداً. يبدو ببساطة أنّ في الإمكان تحقيق العدالة التاريخيّة من خلال إضافة اسم هِنري إلى جانب اسم مورس كمُخترعٍ للتلغراف.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك