رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الواحد والاربعين


لم یكن ونستون یستطیع أن یحدد متى تنتهي جلسة التعذیب أو متى تبدأ، فكل ما یذكره هو أنه كان یمر بفترات من الظلام الدامس یجد نفسه بعدها في الزنزانة أو في الغرفة حیث یمدد الآن على السریر.
كان مستلقیاً على ظهره فوق السریر لا یستطیع حراكاً، وكان جسده مثبتاً عند كل مفصل من مفاصله، بل حتى رأسه كان مثبتاً . وكان أوبراین یحدق فیه بنظرة كلها جدیة وأسى، فیما كان وجهه الذي رآه ونستون من أسفل یبدو خشناً وترتسم علیه علامات الإرهاق وتحت عینیه توجد انتفاخات وفیما بین الأنف والذقن تمتد تجاعید توحي بالإعیاء. كان أوبراین أكبر سناً مما ظنه ونستون، ربما كان في الثامنة والأربعین أو الخمسین. وتحت یده ذلك القرص الذي یتصل به ذراع وحوله أرقام.
قال أوبراین: «لقد قلت لك إننا إذا ما التقینا ثانیة فسیكون لقاؤنا هنا».
فأجاب ونستون: «أجل».
ودونما أي إنذار مسبق، وبحركة خفیفة من ید أوبراین، غمرت موجة من الألم جسد ونستون، كان ألماً مریعاً لأنه لم یكن یفهم ماذا یجري له ومع ذلك كان یشعر أنه یتعرض لأذى ممیت، ولم یكن ونستون یعلم إن كان ذلك الذي یحدث له حقیقیاً أم غیر حقیقي، إلا أن جسده كان یتلوى لیخرج عن شكله المعهود ومفاصله كانت تتمزق ببطء. ومع أن العرق كان یتفصد من جبینه، فإن أخشى ما كان یخشاه هو أن ینقصم عموده الفقري، كما كان یصر على أسنانه ویتنفس من أنفه بصعوبة محاولا التزام الصمت قدر المستطاع.
قال أوبراین وهو یراقب وجهه: «لعلك تخشى أن یتحطم جزء من جسمك بعد لحظات، ولا بد أن خوفك الأول یتركز على عمودك الفقري وتتصور الفقرات وهي تتفكك وینسكب منها النخاع، إن هذا هو ما تظنه واقعاً، ألیس كذلك یا ونستون؟»
فلم یجب ونستون، لكن أوبراین كان قد سحب الذراع المتصلة بالقرص للخلف، فانحسرت موجة الألم سریعاً مثلما داهمته سریعاً.
قال أوبراین: «تلك كانت أربعین، وفي استطاعتك أن ترى أن أرقام هذا القرص تصل إلى المئة، ولذلك أرجو منك ألا تنسى أثناء حدیثنا أن بمقدوري أن أنزل بك الألم في اللحظة التي أشاء وبالدرجة التي أشاء، فإذا لجأت إلى الكذب أو حاولت المراوغة بأي طریقة أو حتى انخفضت درجة ذكائك عن مستواك المعهود فسوف تصرخ من الألم لحظة یحدث ذلك. هل تفهم ما أقول؟»
فأجاب ونستون: «أجل».
وهنا تغیرت هیئة أوبراین وأصبحت أقل قسوة، وأعاد تثبیت نظارته بعنایة، وخطا خطوة أو خطوتین. وعندما تكلم كان صوته لطیفاً متأنیاً، وكانت هیئته مزیجاً من هیئة الطبیب والمعلم بل ورجل الدین، كان تواقاً للشرح والإقناع أكثر منه للعقاب.
وقال: «إنني أتجشم مشقة وجهداً معك یا ونستون لأنك تستحق ذلك. لا بد أنك تعرف تمام المعرفة ما هو نوع علتك، لقد توصلت إلى هذه المعرفة منذ سنوات ولكنك قاومتها، إنك مشوش الذهن،

وتعاني من ضعف بالذاكرة، ولا تستطیع تذكر الأحداث الحقیقیة ومع ذلك توهم نفسك أنك تذكر أحداثاً أخرى رغم أنها لم تقع البتة.

ولحسن حظك فإن هذا المرض یمكن شفاؤه، فأنت لم تحاول شفاء نفسك منه أبداً ِلأنك لم تشأ ذلك، بل ولم تبد استعداداً لبذل أي جهد في ذلك السبیل، وإنني على یقین بأنك حتى هذه اللحظة تتشبث

بعلتك هذه معتبراً إیاها فضیلة. وسأضرب لك الآن مثلاً: في اللحظة الراهنة مع أي دولة تتحارب أوقیانیا؟»
فأجاب ونستون: «عندما ألقوا القبض علي كانت أوقیانیا في حالة حرب مع إیستاسیا»
- مع إیستاسیا، حسناً. وقد كانت أوقیانیا في حالة حرب دائمة مع إیستاسیا، ألیس كذلك؟

أخذ ونستون نفساً طویلاً، وفتح فمه لیتكلم لكنه لم ینطق بشيء. فلم یستطع أن یرفع عینیه عن القرص.
- الحقیقة من فضلك یا ونستون، الحقیقة التي تؤمن بها، قل لي ما تظن أنك تذكره.
- أذكر أنه قبل أسبوع واحد من القبض علي، لم نكن في حالة حرب مع إیستاسیا على الإطلاق وإنما كنا في تحالف معها، وأن رحى الحرب كانت تدور بیننا وبین أوراسیا، وقد دام ذلك أربع سنوات. لكن قبل ذلك...
وهنا استوقفه أوبراین عن متابعة كلامه بإشارة من یده.
- وإلیك مثل آخر، لقد كنت تعیش لسنوات في ظل وهم جد خطیر، لقد كنت تؤمن بأن الرجال الثلاثة وهم جونز وآرنسون وراذرفورد، الذین كانوا فیما مضى أعضاء بالحزب ثم جرى إعدامهم جزاء الخیانة والأعمال التخریبیة التي اقترفوها بعد إدلائهم باعترافات كاملة، لم یقترفوا أیاً من الجرائم التي أدینوا

بها، وكنت تؤمن بأنك وقعت على دلیل وثائقي دامغ یثبت أن كل اعترافاتهم كانت غیر حقیقیة، وهنالك صورة فوتوغرافیة في ذهنك توهمت أنك قد أمسكت بها في یدك. إنها صورة تشبه هذه.
وأبرز أوبراین بین أصابعه قصاصة جریدة أمام عیني ونستون لثوان. لقد كانت صورة ولم یساوره أدنى شك حول ماهیتها، كانت نسخة أخرى من صورة جونز وآرنسون وراذرفورد وهم في فرع الحزب بنیویورك والتي تصادف أن وقعت بین یدیه منذ إحدى عشرة سنة وقام بإحراقها على الفور آنذاك. للحظة واحدة ظلت هذه الصورة أمام ناظریه، ثم غابت عنه، ولكنه كان قد رآها، رآها لا ریب في ذلك! وقد حاول یائساً وبجهد مضن أن یرفع النصف الأعلى من جسده، إلا أنه كان أمراً مستحیلاً أن یتحرك سنتمتراً واحداً في أي اتجاه، وكان قد نسي القرص في تلك اللحظة،

وتملكته رغبة أكیدة في أن یمسك بالصورة بین أصابعه مرة ثانیة أو یراها على الأقل.

وصاح بملء صوته: «إنها موجودة!»
فقال أوبراین: «كلا، لیست موجودة».
ثم خطا بضع خطوات وصولاً إلى محرقة الذكریات التي كانت في الجدار المقابل، ورفع الغطاء ورمى بها من فتحة المحرقة لتبتلعها ألسنة اللهب فتتلاشى، ثم التفت أوبراین إلى ونستون وقال:
- الآن استحالت رماداً، بل حتى لیست رماداً، لقد أصبحت ذرات غبار. إنها لم تعد موجودة الأن ولم یحدث أن كان لها وجود على الإطلاق.
فقال ونستون: «لكنها كانت موجودة! بل لا تزال موجودة! إنها موجودة في الذاكرة، وأنا أذكرها كما أنك تذكرها».
فقال أوبراین: «إنني لا أذكرها».
وغاص قلب ونستون بین ضلوعه، لقد كانت تلك هي ازدواجیة التفكیر التي قرأ عنها، وسرعان ما تملّكه شعور بالیأس القاتل، فلو أنه استطاع أن یستوثق من أن أوبراین یكذب فإنه لم یكن لیكترث بذلك الأمر، بید أنه كان من الجائز تماماً أن أوبراین قد نسي الصورة حقیقة. وإذا صح ذلك، فإنه یكون قد نسي نكرانه لتذكرها، بل ونسي أنه نسي، فكیف إذن یتسنى للمرء التأكد من أن الأمر لا یعدو كونه مجرد خداع من جانبه؟ ربما یمكن لمثل هذا التشویش أن یحدث حقیقة في العقل، وكانت هذه الفكرة هي التي قهرته.

كان أوبراین ینظر إلیه بإمعان، وكان قد أخذ، وأكثر من أي وقت مضى، هیئة معلم یتجشم مشقة وهو یعلم طفلاً معانداً لكنه واعد وذكي.
وقال أوبراین: «یوجد للحزب شعار یتعلق بالتحكم في الماضي، هل یمكنك أن تقوله من فضلك؟»
فاذعن ونستون وقال ممتثلاً: «إن من یتحكم في الماضي یتحكم في المستقبل، ومن یتحكم في الحاضر یتحكم في الماضي».
فأومأ أوبراین برأسه مؤمنا وقال: (إن من یتحكم في الحاضر یتحكم في الماضي، هل ترى أن للماضي وجوداً فعلیاً؟»
ومرة أخرى شعر ونستون بالعجز یغمره من رأسه إلى أخمص قدمیه، ومد عینیه إلى القرص ولم یكن یدري إن كانت الإجابة بنعم أو لا هي التي ستخلصه من هذا الألم، بل إنه لم یدر ما هي الإجابة التي یعتقد أنها صحیحة.
ابتسم أوبراین ابتسامة خفیفة وقال: «إنك لست من علماء المیتافیزیقا یا ونستون، كما أنك حتى هذه اللحظة لم تفكر فیما تعنیه كلمة الوجود، وحتى أكون أكثر دقة سأقول: هل الماضي موجود كشيء محسوس ویشغل حیزا في الفراغ؟ هل یوجد في مكان ما، عالم یتألف من أجسام صلبة مثلاً، لا یزال الماضي یحدث فیه؟»
- كلا.
- إذن أین یوجد الماضي إن كان له وجود في الأصل؟
- في السجلات حیث یدون.
- في السجلات وفي .....؟
- في العقل وفي ذكریات البشر.
- في الذاكرة، حسناً جداً، إننا، أقصد الحزب، نسیطر على جمیع السجلات ونسیطر على جمیع الذاكرات، ومن ثم فإننا نتحكم في الماضي، ألیس كذلك؟
وصرخ ونستون مرة أخرى بصوت عال وقد نسي القرص:

«ولكن كیف تستطیعون منع الناس من تذكر الأشیاء؟ إنه عمل لا إرادي حتى أن أحداً لا یمكنه أن یسیطر على ذاكرته، فكیف تستطیعون أنتم السیطرة على الذاكرة؟ إنكم لم تستطیعوا السیطرة

على ذاكرتي».
وبدت علامات التجهم على وجه أوبراین مرة أخرى ووضع یده على القرص وقال:
- بل على العكس، إنك أنت الذي عجزت عن السیطرة علیها، وهذا هو ما جاء بك إلى هنا، إنك هنا لأنك فشلت في الانصیاع وفي فرض الانضباط الذاتي على نفسك، إنك لم تتقن عملیة والخضوع التي هي ثمن التعقل، وإنما فضلت أن تكون مجنوناً وضعت نفسك ضمن أقلیة مؤلفة من فرد واحد هو أنت.

إن الواقع لا یراه إلا العقل المنضبط یا ونستون، إنك تؤمن بأن الواقع شيء موضوعي خارجي قائم بذاته، كما تؤمن بأن طبیعة الواقع طبیعة بدیهیة بذاتها، وعندما تضلل ذاتك وتوهمها أنك ترى شیئاً
ما، فإنك تفترض أن كل الآخرین یرون الشيء ذاته، ولكني أقول لك یا ونستون إن الواقع لیس له وجود خارجي، إن الواقع موجود في العقل البشري ولا یوجد في مكان سواه. إنه لیس موجوداً في العقل الفردي الذي هو عرضة للوقوع في الأخطاء، كما أنه یفنى بفناء صاحبه، إنه لا یوجد إلا في عقل الحزب الذي یتسم بأنه جماعي وخالد. وما یعتبره الحزب حقیقة فهو الحقیقة التي لا مراء فیها، ومن المستحیل أن ترى الحقیقة إلا بالنظر من خلال عیني الحزب. تلك هي الحقیقة التي یجب أن تتعلمها من جدید یا

ونستون، وهذا یحتاج منك أن تدمر ذاتك وهو أمر یتطلب قوة الإرادة، یجب أن تذل نفسك وتقهرها حتى یمكنك أن تكون عاقلاً.
وتوقف هنیهة عن الكلام وكأنه یتیح لكلماته وقتاً كافیاً لتستقر في ذهن ونستون.
ثم أردف: «هل تذكر یا ونستون حینما كتبت في مذكراتك تقول:

إن الحریة هي أن تكون حراً في أن تقول إن اثنین واثنین یساویان أربعة؟»
- فأجاب ونستون: «نعم».
ورفع أوبراین یده الیسرى جاعلاً ظهرها إلى ونستون ومخفیاً الإبهام خلف الأصابع الأربع المرفوعة، وسأل:
- كم إصبعاً ترى یا ونستون؟
- أربعاً.
- وإذا قال الحزب إنها لیست أربعاً بل خمسة فكم یكون عددها حینئذ؟
- أربعاً.
ولم یكد ونستون یتم هذه الكلمة حتى صرخ من شدة الألم الذي سرى في أوصاله، وأشارت الإبرة إلى خمس وخمسین، وبدأ العرق یتفصد من كل أجزاء جسمه وأخذ الهواء یتدفق إلى رئتیه فیخرج أنیناً لم یمنعه حتى اصطكاك أسنانه، وكان أوبراین یراقبه بینما لا تزال الأصابع الأربع مرفوعة، ثم سحب أوبراین الذراع فخفّت حدة الألم بعض الشيء.

وسأل: «كم إصبعاً ترى یا ونستون؟»
- أربعاً.
فارتفعت الإبرة إلى الستین.
- كم إصبعاً ترى یا ونستون؟
- أربعاًا أربعاً! ماذا أقول غیر ذلك؟ أربعاً.
لا بد أن الإبرة قد ارتفعت مرة أخرى ولكنها لم تسترع انتباه ونستون الذي كان یستأثر به ذلك الوجه الغلیظ الصارم والأصابع الأربع، كانت الأصابع تنتصب أمام عینیه وكأنها أعمدة ضخمة تهتز وسط جو غائم، لكنها مع ذلك كانت أربعاً ولا ریب.
- كم إصبعاً یا ونستون؟
- أربعاً! أوقف عني هذا الألم! لماذا تستمر في تعذیبي؟ أربعاً! أربعاً!
- كم إصبعاً یا ونستون؟
- إذن خمساً! خمساً! خمساً!
- لا یا ونستون هذا لن یفیدك، إنك تكذب لأنك ما زلت تعتقد أنها أربع. كم إصبعاً ترى من فضلك؟
- أربعاً! خمساً! أربعاً! الرقم الذي تریده. كل ما أرجوه هو أن توقف الألم.
وفجأة وجد ونستون نفسه جالساً وقد أحاطت ذراع أوبراین بكتفیه، ربما كان قد فقد الوعي لبضع ثوان، وأما الأحزمة التي تشد جسمه إلى السریر فقد حلت وشعر بموجة برد قارس تسري في جسده حتى أن أوصاله كانت ترتجف وأسنانه تصطك ودموعه تنهمر على خدیه، فتشبث بأوبراین وكأنه طفل رضیع وقد أراحته كل الراحة وعلى نحو مستغرب تلك الذراع الثقیلة الملتفة حول كتفیه. كان یخامره شعور بأن أوبراین هو حامیه، وأن الألم یأتیه من الخارج ومن مصدر آخر غیر أوبراین، وأن أوبراین هو الذي سیخلصه من الألم.
وقال أوبراین بلطف: «إنك بطيء التعلم یا ونستون».
فقال ونستون وهو ینتحب: «وماذا عساي أن أفعل؟ كیف یمكنني أن أتجنب رؤیة ما هو أمام عیني؟ إن اثنین واثنین یساویان أربعة».
فقال أوبراین: «أحیاناً یساویان أربعة یا ونستون، وأحیاناً أخرى یساویان خمسة وقد یساویان ثلاثة أیضاً، وفي أحیان أخرى یساویان أربعة وخمسة وثلاثة في آن معاً. یجب أن تحاول بمزید من الجدیة والجهد، فلیس من السهل أن تصبح سلیم العقل».
ومدد ونستون ثانیة على السریر وشَّد وثاقه من جدید، إلا أن الألم كان قد انحسر وذهبت عنه تلك القشعریرة التي سرت في جسده لتتركه خائراً ضعیفاً، وأشار أوبراین برأسه إلى الرجل ذي المعطف الأبیض الذي كان واقفاً لا یحرك ساكناً طوال تلك العملیة، فتقدم ذلك الرجل ومال على ونستون یفحص عینیه ویجس نبضه ووضع أذنه على صدره وطرق على عظامه هنا وهناك ثم أومأ برأسه إلى أوبراین.
فقال أوبراین: «مرة أخرى».
وتدفق الألم في جسد ونستون من جدید، وكانت الإبرة قد بلغت الدرجة السبعین أو الخامسة والسبعین، لكنه اغلق عینیه هذه المرة، إذ كان یشعر أن الأصابع لا تزال منتصبة وأنها لا تزال أربعاً، فقد كان كل همه هو أن یظل على قید الحیاة إلى أن تنقشع هذه النوبة من الألم، فلم یعد یعرف إن كان یصرخ من الألم أو أنه یتألم في صمت، وفتح ونستون عینیه بعدما خفّت حدة الألم مرة أخرى، حیث كان أوبراین قد سحب الذراع للخلف.
- كم إصبعاً ترى یا ونستون؟
- أربعاً، أظن أنها أربعاً، سأحاول أن أراها خمساً إن استطعت،

-إنني أحاول فعلا أن أراها خمساً
أترغب یا ونستون أن تقنعني بأنك تراها خمساً أم أنك تراها فعلاً خمساً؟
- أرغب أن أراها فعلا خمساً.
فقال أوبراین: «إذن مرة أخرى».
ولعل الإبرة أشارت في هذه المرة إلى الثمانین أو التسعین درجة، ولم یعد في مستطاع ونستون أن یتذكر سبب هذا الألم. وخیل إلیه أن غابة من الأصابع تتراقص أمام عینیه المشدوهتین ولتداخل

بعضها في بعض ویتوارى بعضها وراء بعض ثم یعود فیظهر، وكان یحاول أن یحصیها دون أن یعرف لماذا، لكنه كان یعرف أن من المستحیل علیه أن یحصیها، وذلك بسبب الطبیعة الغامضة التي تتلبس الخمسة والأربعة. وزال عنه الألم مرة أخرى، وما إن فتح عینیه حتى تبین له أنه لا یزال یرى الشيء نفسه، أصابع لا حصر لها ولا عد مثل أشجار متحركة یسیر بعضها وراء بعض في وجهتین متداخلتین، فسارع بإغلاق عینیه مرة أخرى.
- كم إصبعاً ترى یا ونستون؟
- لست أدري، لست أدري. أخاف أن تقتلني إن فعلت ذلك مرة أخرى. أربعاً، خمساً، ستاً، أقسم لك إنني لست أدري.
فقال أوبراین: «هذا أفضل».
وغرست إبرة في ذراع ونستون فشعر معها بدفء مریح یدب في أوصاله حتى كاد ینسى الألم، ففتح عینیه ونظر بعین الرضا والامتنان إلى أوبراین. وما إن رأى ذلك الوجه الغلیظ القميء شدید الذكاء الذي یمتلئ بالتغضنات حتى شعر بقلبه یخفق، ولو كان في مستطاعه أن یتحرك لمد یده وتشبث بذراع أوبراین.

لقد أحبه في هذه اللحظة كما لم یحبّه من قبل، ولم یكن ذلك لأنه أوقف الألم فحسب، وإنما لأن مشاعره القدیمة، التي كان یكنها لأوبراین بقطع النظر عما إذا كان صدیقاً أو عدواً، قد جاشت في صدره من جدید، فأوبراین هو الشخص الذي یمكنه أن یتكلم إلیه، ولعل المرء لا یهمه أن یحبه الناس بقدر ما یهمه أن یفهموه، نعم إن أوبراین قد ذهب في تعذیبه إلى حمد الجنون، بل ومنذ لحظات كان موقناً بأن

أوبراین سیرسله إلى مثواه الأخیر، لكن كل ذلك لا یهم، فقد كان یجمع بینهما ما هو أعمق من الصداقة، إنها الحمیمیة، وبالرغم من أنهما لا یمكنهما تبادل الحدیث معاً، فلا بد أن یأتي یوم یلتقیان فیه ویتحدثان معاً كما یشائان، ولاحظ ونستون أن أوبراین ینظر إلیه نظرة استوحى منها أن الأفكار نفسها تدور بخاطره، وعندما تكلم أوبراین كانت نبرة حدیثه یسیرة ومفعمة بروح الحوار، فقال:
- أتدري أین أنت یا ونستون الآن؟
- لست أدري، لكن یمكنني التخمین، لعلي في وزارة الحب.
- هل تعلم كم من الوقت مضى علیك ها هنا؟

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك