رواية 1984 لجورج أورويل : القسم التاسع والثلاثون


لعلهم قد جاؤوا به إلى هنا قبل ساعتین أو ثلاث ومع ذلك لم یفارقه ألم معدته لحظة من الزمن، وإن اشتد علیه حیناً وخف حیناً آخر، وكان نطاق تفكیره یتسع أو یضیق تبعاً لذلك، فحینما كان یشتد علیه الألم كان لا یفكر إلا في الألم ذاته وفي رغبته في الطعام،

أما حینما یخف فكان الرعب یمسك بتلابیبه، كما مرت به لحظات كان یتراءى له خلالها المصیر الذي ینتظره وهو ما كان یرتجف له قلبه وتتوقف أنفاسه. فقد كان یتخیل وطأة الهراوات وهي تحطم مرفقیه والأحذیة ذات النعال الحدیدیة وهي تهشم ساقیه، كما تراءى له وهو یُسحل فوق الأرض ویصرخ طلباً للرحمة بعد أن تهشمت أسنانه. وقلما كانت ترد جولیا على خاطره لأنه كان لا یستطیع أن یركز تفكیره علیها، نعم لقد أحبها ولن یخونها، (ولكن هذا الحب كان مجرد حقیقة یعرفها معرفته لمبادئ الریاضیات

ولذلك لم یعد الآن یجد أثراً لأي حب نحوها، بل لم یعد حتى یشغل باله بما عساه ألم بها. ولكن أوبراین كان هو الذي یخطر بباله كثیراً فیعید إلیه بصیصاً من الأمل، فیقول لنفسه لا بد أن أوبراین قد علم بأمر اعتقاله، لكنه تذكر أن حركة «الأخوة» لا تحاول أبداً إنقاذ أعضائها، إلا أنه تبقى أمامهم دائماً شفرة الحلاقة التي یمكنهم أن یهربوها إلیه لیضع بها حداً لآلامه. وتصور أن خمس ثوان تكفي لأن یمزق نفسه بالشفرة وببرودة حارقة، بل إن الأصابع الممسكة بالشفرة ستتقطع حتى العظام هي الأخرى قبل أن یندفع إلیه الحراس لمنعه من ذلك. وكان كل شيء یرتد على جسمه العلیل الذي كان یرتجف من أقل ألم، ومع ذلك لم یكن واثقاً بأنه سیستخدم الشفرة حتى إذا أتیحت له الفرصة، فقد كان من الطبیعي

لدیه أن یعیش لحظة بلحظة مفضلا الحیاة على الموت حتى لو كان على یقین من أن تلك الحیاة لن تتجاوز عشر دقائق وستكون كلها عذاباً في عذاب.
وكان ینصرف أحیاناً إلى إحصاء عدد بلاطات الخزف الأبیض على جدران الزنزانة، ومع أن الأمر كان یبدو هیناً فانه لم یوفق إلى ذلك. وكثیراً ما كان یتساءل عن مكان وجوده وعن الوقت أهو لیل أم نهار. فتارة یشعر بأنه من المؤكد أن ضوء النهار یملأ الكون خارج الزنزانة، وتارة أخرى وفي الوقت نفسه تقریباً یشعر

أن ظلاماً دامساً یخیم على العالم بالخارج. كان ونستون یعلم بالغریزة أن الأنوار في هذا المكان لا یمكن أن تطفأ، إنه ذلك المكان الذي لا ظلمة فیه، الأن فطن إلى السبب الذي جعله یظن أن أوبراین فهم إشارته عندما حدثه عن المكان الذي لا ظلام فیه، ففي وزارة الحب لیس ثمة نوافذ وزنزانته ربما تكون في قلب البنایة أو عند الحائط الخارجي، وقد تكون في الطابق العاشر تحت الأرض أو في الطابق الثلاثین فوق الأرض. وقد راح ونستون ینتقل بمخیلته من مكان لآخر محاولاً أن یقرر بحسه العام ما إذا

كانت زنزانته معلقة في الهواء أم مدفونة في أعماق سحیقة.
سمع ونستون وقع أقدام خارج الزنزانة، بعدئذ فُتح الباب الفولاذي محدثاً صریراً عالیًا ودخل منه ضابط شاب یرتدي بزة سوداء یلمع جلدها المصقول وكان ذا وجه شاحب یشبه قناعاً من الشمع، وما إن دخل الزنزانة حتى أشار إلى الحرس أن یُ ِدخلوا السجین الذي كانوا یقتادونه والذي لم یكن غیر الشاعر أمبلفورث. أدخلوه الزنزانة وهو یجرجر قدمیه ثم غادروا وأغلقوا الباب خلفهم.

راح أمبلفورث یتحرك داخل الزنزانة من طرف إلى طرف كما لو أنه یبحث عن باب للخروج، وبعدئذ أخذ یذرع الزنزانة جیئة وذهاباً، ولم یكن قد انتبه إلى وجود ونستون بعد رغم أن عینیه الزائغتین كانتا تحدقان في الجدار الذي یتكئ إلیه ونستون. كان أمبلفورث حافي القدمین وكانت أصابع رجلیه الكبیرة القذرة تبرز من ثقوب جوربه المهترئ ولحیته الكثة تغطي وجهه حتى عظم وجنتیه مضفیة علیه هیئة وحشیة كانت تتلاءم على نحو غریب مع هیكله الضخم وحركاته العصبیة.
حرك ونستون نفسه من سباته عازماً على الحدیث مع أمبلفورث مهما كانت العواقب، فربّما كان هو من یحمل شفرة الحلاقة إلیه.
فناداه: «أمبلفورث».
لم یصدر أي صوت عن شاشة الرصد، في حین توقف أمبلفورث وقد جفل جفلة خفیفة، ثم ركز عینیه على ونستون وقال:
- آه! ونستون! أأنت هنا أیضاً؟
- لماذا جيء بك إلى هنا؟
- الحق أقول لك ...، قال ذلك وهو یجلس قلقاً على المقعد قبالة ونستون، إنه جرم واحد لا غیر.
- لكن هل اقترفته فعلاً؟
- یبدو لي أنني فعلت ذلك.
وفرك أمبلفورث جبینه بیده وضغط علیها للحظة كأنما یحاول أن یتذكر شیئاً ما.

ثم قال على نحو غامض: «إن مثل هذه الأشیاء ممكنة الحدوث، فیمكنني أن أحدد لك حادثاً لعله هو السبب في مجیئي إلى هنا، إنه ولا ریب حماقة من جانبي. فقد كنا نعمل في إنتاج طبعة من

قصائد كبلنج وأبقیت على كلمة «الله» في نهایة أحد الأبیات وكان لا بد من الإبقاء علیها لملاءمة القافیة». وأضاف وقد علت علامات السخط على وجهه: «لقد كان من المستحیل تغییر البیت الشعري، وقد حاولت على مدى أیام التفكیر في بدیل لكن دون جدوى».
وتغیرت أساریر وجهه وذهب عنه الغضب وبدا للحظة راضیاً حیث شاع في وجهه شيء من دفء الثقافة، إنه ابتهاج المتحذلق الذي اكتشف حقیقة لا قیمة لها.
وأردف قائلاً: «هل خطر ببالك أن تاریخ الشعر الإنجلیزي كان محكوماً بحقیقة أن اللغة الإنجلیزیة فقیرة في الأوزان؟»
ولم یكن ذلك السؤال قد خطر ببال ونستون مطلقاً، فضلاً عن أن من في مثل ظروفه لا یأبه أو یهتم بذلك.
فسأله ونستون: «هل تعرف في أي وقت من الیوم نحن الآن؟»
وبدا أن أمبلفورث جفل ثانیة وقال: «قلّما فكرت في ذلك، إنني حتى لا أذكر مذ كم یوم أُلقي القبض علي؟ مذ یومین أم ثلاثة؟»

وراح یقلب عینیه في جوانب الغرفة كمن یأمل أن یجد نافذة، ثم أضاف: «في هذا المكان لا فرق بین اللیل والنهار ولست أدري كیف یمكن للمرء أن یقدر الزمن فیه».
واستمر حدیثهما الهائم بضع دقائق ثم ومن دون سبب واضح صدر صوت عن شاشة الرصد یأمرهم بالتزام الصمت. فعاد ونستون لسكونه وقد عقد ذراعیه حول ركبتیه. أما أمبلفورث فقد حال بنیانه الضخم بینه وبین الجلوس مرتاحاً على المقعد الصیق، وراح یتململ في جلسته ناقلاً یده من ركبته هذه إلى تلك. إلا أن صوتاً نبعث ثانیة من شاشة الرصد یأمره بالسكون. ومر وقت وهما على هذه الحال، ربما عشرون دقیقة أو ساعة، ثم سمعا ثانیة وقع أقدام خارج الزنزانة، فتجمد الدم في عروقه، وجال بخاطره ألن وقع الأقدام تعني أن دوره قد حان، ربما حالاً وربما خلال دقائق.
وفُتح الباب لیدخل منه الضابط الشاب ذو الوجه المتجهم. وبحركة خاطفة من یده قال للحراس وهو یشیر إلى أمبلفورث: الغرفة .101
نهض أمبلفورث ومشى مهرولاً بین یدي الحراس، وقد بدا وجهه مضطرباً رغم أنه لم یفهم ماذا یراد به.
ثم مضى وقت بدا لونستون طویلاً، وعاوده ألم معدته. وراحت أفكاره تدور في حلقة مفرغة مثل كرة تدور وتسقط في المجموعة نفسها من الفتحات، إذ لم یكن یفكر إلا في ستة أمور هي: ألم معدته، وكسرة الخبز التي في جیبه، والدم والصراخ، وأوبراین، وجولیا، وشفرة الحلاقة. ثم اعترته نوبة تشنج جدیدة في أحشائه لدى سماعه وقع أقدام الحراس وهم یقتربون نحو الزنزانة. وما إن فتح الباب حتى هبت موجة باردة من العرق كانت تتقدم بارصون الذي أدخله الحراس إلى الزنزانة، والذي كان مرتدیاً قمیصاً ریاضیاً وسروالاً قصیراً وهنا جفل ونستون حتى أنه نسي نفسه وقال مشدوها: «حتى أنت

هنا؟»
ورمق بارصون ونستون بنظرة خلت من أي اهتمام أو دهشة لكنها كانت مفعمة بالبؤس، وراح یذرع الغرفة جیئة وذهاباً بخطى غیر منتظمة وبصورة توحي بأن زمام نفسه قد أفلت منه. وكان كلما حاول مد ساقیه القصیرتین أصابتهما رعشة، وعیناه كانتا جاحظتین تنظران باندهاش وكأنهما تحدقان في شيء بعید.

فسأله ونستون: «ما الذي جاء بك إلى هنا؟»
فأجاب بارصون منتحباً: «جریمة فكر». كانت نبرة صوته توحي بإقرار كامل منه باقتراف الجریمة وبرعب یعتمل بداخله كلما تذكر أنه یقع تحمت طائلة هذا الاتهام، ثم وقف قبالة ونستون وكأنما یحتكم إلیه، فقال: «أتظن أنهم سیعدمونني رمیاً بالرصاص؟ إنهم لا یرمون المرء بالرصاص إذا لم یقترف إثماً
ملموساً ، أما مجرد الأفكار فهذا ما لا سلطة للمرء علیه، ألیس كذلك؟ أعلم أنهم یمنحون المرء فرصة كافیة للإدلاء بأقواله، إنني أثق بهم فیما یخص ذلك. إنهم یعرفون سجلّي، ألیس كذلك؟ لعلك تعرف أي نوع من الرجال كنت، لم أكن رجلاً سیئاً بأي شكل،

صحیح أنني لم أكن متقد الذكاء ولكنني كنت متحمساً وبذلت كل ما في وسعي لخدمة الحزب، ألیس كذلك؟ ألا تظن أنني سأفلت من عقوبة الموت وأنال خمس أو حتى عشر سنوات أمضیها في معسكر من المعسكرات؟ إن من هو مثلي یمكنه أن یؤدي أعمالاً مفیدة في معسكرات الأشغال الشاقة، إنني لا أظنهم سیعدمونني رمیاً بالرصاص لخروجي عن الطریق القویم مرة واحدة».
وسأله ونستون: «هل أنت مذنب؟»
فأجابه بارصون باكیاً وهو ینظر إلى الشاشة نظرة خنوع:

«بالطبع إنني مذنب. وهل تظن أن الحزب یمكن أن یعتقل شخصاً بریئاً؟» وهنا بدا وجهه الشبیه بالضفدع أكثر هدوءاً، بل وارتسمت علیه علامات الاستقامة الزائفة، ثم استطرد قائلاً وعلامات التأثر

بادیة علیه:
«إن جریمة الفكر جریمة فظیعة، إنها جریمة غادرة، تتلبسك دون أن تتنبه. أتدري كیف تلبستني؟ أثناء نومي! نعم، أثناء نومي. لقد كنت أؤدي عملي بنشاط ولم یخطر ببالي البتة أن مثل هذه الأفكار السوداء تختبئ في عقلي الباطن. ثم بدأت بعد ذلك أتكلم وأنا نائم.

أَوتدري ماذا سمعوني أقول؟»
طبیة أن یتلفظ بكلما وخفض صوته كشخص مضطر لدواع تبذیئة.

«لقد سمعوني أقول: لیسقط الأخ الكبیر! نعم هذا هو ما قلته. ویبدو أنني أخذت في تردیده المرة تلو الأخرى، ولا أخفي علیك أنني مسرور من أنهم قد قبضوا علي قبل أن أذهب لأبعد من ذلك. هل تعلم ماذا أنوي قوله حینما أمثل بین یدي المحكمة؟ سأقول لهم:

شكراً، شكراً لأنكم أنقذتموني قبل فوات الأوان».
فسأله ونستون: «لكن من الذي وشى بك؟»
فأجاب بارصون بنبرة حزینة مفعمة بالفخر: «إنها ابنتي الصغیرة، لقد كانت تسترق السمع من ثقب الباب وسمدت ما كنت أهذي به، وفي الیوم التالي بادرت لإبلاغ الدوریة. إنها طفلة متقدة الذكاء رغم أنها لم تتجاوز السابعة. إنني لا أكن لها أي ضغینة جراء ذلك، بل على العكس إنني فخور بها لأن ذلك یعني أنني قد ربیتها تربیة قویمة وغرست فیها روح الولاء».

ثم صدرت عنه بعض الاختلاجات المضطربة، فتارة یقف وأخرى یجلس وهو یمد بصره نحو المرحاض، ثم فجأة خلع سرواله وهو یقول:
- معذرة أیها العجوز إذ لم أعد أحتمل الانتظار أكثر من ذلك!
وألقى بمؤخرته الكبیرة فوق قاعدة المرحاض، فغطى ونستون وجهه بیدیه إلا أن صوتاً عالیاً انبعث من شاشة الرصد: سمیث، ونستون سمیث 6079، اكشف عن وجهك، فذلك غیر مسموح به في الزنزانة. فكشف ونستون عن وجهه، لكنه تبین بعدما انتهى بارصون من استعمال المرحاض وبصورة فجة تثیر الاشمئزاز أن سدادة البالوعة لا تعمل ما جعل الزنزانة تغص برائحة بغیضة ونتنة لساعات.
وأخیراً ذهب بارصون، فكثیر من السجناء یجیئون ویذهبون دون أن یعلم أحد بما آل إلیه مصیرهم، ومنهم امرأة ارتعدت فرائسها وامتقع لونها بمجرد أن سمعت الضابط یأمرها أن تذهب إلى الغرفة 101. وكان ونستون قد فقد الإحساس بالوقت ولم یعد یمیز اللیل من النهار. أما عن السجناء الآخرین فكانت الزنزانة تضم ستة موقوفین من الرجال والنساء، یجلسون بلا حراك وقد خیم علیهم جمیعاً صمت مطبق. وقبالة ونستون كان یجلس رجل أشبه بحیوان مجتر ذي أسنان بارزة وذقن جرداء، كما كانت له أوداج منتفخة تبعث على الاعتقاد بأنه یختزن بعض الطعام في فمه، وكان ینتقل بعینیه خلسة من سجین إلى آخر حتى إذا ما التقت عیناه بعیني أحدهم أشاح بوجهه سریعاً

وفُتح الباب مرة أخرى لیزج بسجین آخر إلى الزنزانة. وكانت هیئته تقشعر لها الأبدان. كان رجلاً عادیاً ذا هیئة مزریة ولعله كان مهندساً أو فنیاً من نوع ما، لكن الشيء الذي راع ونستون فیه هو وجهه الناحل الذي كان أشبه بالجمجمة. وبسبب نحافته كان فمه وعیناه یبدوان أوسع مما هما في الواقع وبصورة مشوهة، كما كانت نظراته تنطوي على غدر وكراهیة متأججة یضمرها لشخص أو شيء ما.
جلس الرجل فوق المقعد على مقربة من ونستون، لكن ونستون لم یتطلع إلى وجهه ثانیة وإن كان وجهه المعذب الأشبه بالجمجمة قد انطبع في مخیلته وكأنه یقف أمام عینیه مباشرة. وفجأة أدرك

ونستون السر وراء هذا النحول، لقد كان الرجل یتضور جوعاً.

ویبدو أن جمیع سجناء الزنزانة قد فطنوا إلى ذلك في الوقت نفسه. وبدت علامات التململ على كل الجالسین فوق المقعد الخشبي، وظل الرجل ذو الذقن الجرداء یحملق في صاحب الوجه الأشبه

بالجمجمة ثم لا یلبث أن یجفل مبتعداً عنه ثم یقترب منه ثانیة تحت تأثیر جاذبیة لا تقاوم ثم یبتعد عنه مرة أخرى وقد تلبسه شعور بالذنب ولذلك فقد راح یتململ في جلسته. وأخیراً هب واقفاً وراح یمشي داخل الزنزانة بخطى مضطربة، ودس یده في جیبه لیخرج كسرة خبز قدمها على الفور إلى الرجل ذي الوجه الأشبه بالجمجمة وعلامات الارتباك واضحة علیه.
وعلى الفور انطلق زئیر غاضب من شاشة الرصد یصم الآذان، فقفز الرجل ذو الأوداج المنتفخة والذقن الجرداء عائداً إلى مكانه في حین كان الرجل ذو الوجه الأشبه بالجمجمة قد سحب یده وراء ظهره وكأنه یرید أن یُري العالم كله أنه قد رفض الهدیة.
فزأر الصوت: (بامستید! بامستید رقم 2713 دع كسرة الخبز تسقط على الأرض».

فأذعن الرجل للأمر وترك كسرة الخبز تسقط على الأرض. وصاح الصوت من الشاشة ثانیة: «اثبت مكانك، وانظر نحو الباب ولا تأت بحركة».

وانصاع الرجل للأمر ثانیة فیما كانت أوداجه ترتجف من الفزع. وفتح الباب وما إن دخل الضابط الشاب وانتحى جانباً حتى ظهر من ورائه حارس مكتنز القامة مفتول الذراعین عریض المنكبین.

ووقف الحارس قبالة السجین ذي الوجه الأشبه بالجمجمة وما إن صدرت له الإشارة من الضابط حتى سدد لكمة، جمع فیها كل ما أوتي من عزم، لفم السجین، وكانت اللكمة من القوة بحیث طرحته أرضاً فسقط عند قاعدة المرحاض. وظل ممدداً لبضع لحظات فاقداً الوعي بینما كان فمه وأنفه ینزفان دماً داكناً. ولم یصدر عنه غیر أنین أو صریر خافت بدا أنه لا یشعر بهما. ثم تدحرج حتى رفع نفسه عن الأرض وهو یترنح مستعیناً بیدیه وركبتیه. ووسط دمه النازف ولعابه السائل رأى ونستون فكي الرجل یرتطمان

بالأرض.

وتسمر السجناء الآخرون في الأرض وقد عقدوا أیدیهم فوق ركبهم، وعاد الرجل ذو الأوداج المنتفخة إلى مكانه وقد تورم والتهب أحد صدغیه حتى أصبح أشبه بكتلة هلامیة بلون الكرز مع فتحة سوداء في منتصفها. ومن حین لآخر كان الدم یقطر فوق سترته، بینما ظل ینقل عینیه الرمادیتین بین وجوه السجناء یخامره شعور بالذنب أقوى من ذي قبل وكأنما كان یحاول أن یستشف مدى ازدراء الآخرین له بعد ما لحق به من إذلال جزاء فعلته.
وفُتح الباب من جدید، وأشار الضابط الشاب إشارة صغیرة إلى السجین ذي الوجه الأشبه بالجمجمة قائلاً؟
- إلى الغرفة 101.
وصدرت عن ونستون شهقة وبدا علیه الاضطراب. وكان السجین قد خر راكعاً على ركبتیه ولداه مضمومتان إلى صدره وراح یصرخ متضرعاً:
أیها الرفیق! أیها الضابط! أضرع إلیك ألا تأخذني إلى ذلك المكان.
لقد اعترفت لكم بكل شيء، ماذا تریدون بعد؟ لم یعد لدي ما أعترف به. قل لي بماذا تریدونني أن أعترف وأنا مستعد للاعتراف فوراً، أو اكتب الاعتراف وسأوقع علیه في الحال! على أي شيء. لكن لا تذهبوا بي إلى الغرفة 101.
فعاد الضابط یكرر: « ّجروه إلى الغرفة 101».
ولاحظ ونستون أن وجه الرجل الذي كان شاحباً بالفعل قد انقلب وعلى نحو لا یصدق إلى اللون الأخضر.
وراح السجین یصیح متضرعاً: «افعلوا بي ما شئتم! لقد جوعتموني لأسابیع طویلة، اقتلوني. أطلقوا علي الرصاص. اشنقوني. اقضوا علي بالسجن خمساً وعشرین سنة. هل من أحد تریدون أن أشي به؟ فقط أشیروا لي من یكون، فأنا لا أبالي بمن سیكون هذا الشخص ولا بما ستفعلون به. إن لي زوجة وثلاثة

أطفال أكبرهم لم یتجاوز السادسة، فلتذبحوهم أمام عیني وسأقف متفرجاً على ذلك، لكن لا تذهبوا بي إلى الغرفة 101!
فعاد الضابط یقول: «إلى الغرفة 101».
وتطلّع الرجل حوالیه في جنون إلى بقیة السجناء، وكأنه یود أن یختار ضحیة أخرى بدلاً منه، واستقرت عیناه على الرجل ذي الأوداج المنتفخة ومد ذراعه المنحولة صائحاً:
«هذا هو الرجل الذي ینبغي أن تأخذوه! إنكم لم تسمعوا ما كان یقوله بعدما هشمت اللكمة أسنانه. امنحوني الفرصة وسأخبركم بكل كلمة نطق بها.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك