رواية 1984 لجورج أورويل : القسم السابع والثلاثون


، فلیس هنالك قانون في أوقیانیا، فالأفكار والتصرفات التي، حینما تكتشف، تعني موتاً محققاً لفاعلها لیست ممنوعة رسمیًا،

ولیست كل التصفیات الجسدیة، والاعتقالات والتعذیب وأحكام السجن وعملیات التبخیر عقاباً على جرائم ارتكبت فعلاً، بل هي مجرد استئصال لأشخاص فد یقترفون جرماً في المستقبل. ولا یكفي أن یكون عضو الحزب ذا رأي سلیم فحسب، بل یجب أن تكون غرائزه سلیمة أیضاً. وكثیر من المعتقدات التي یطلب منه أن یعتنقها والمواقف التي یتبناها لیست معلنة بوضوح، ولا یمكن إعلانها بغیر فضح للمتناقضات الكامنة في الاشتراكیة الإنجلیزیة.

وإذا كان الشخص بالفعل مخلصاً للحزب، ویسمى في اللغة الحدیثة «حسن التفكیر»، فإنه یعرف، في شتى الظروف وبدون حاجة إلى التفكیر، ما هو المعتقد الصحیح أو ما هي العاطفة المرغوبة.

وعلى أي حال فإن التدریب الذهني المدروس الذي یخضع له العضو في طفولته والذي یمكن اختصاره في مفردات اللفة الجدیدة

«إیقاف الجریمة، بیاض السواد، ازدواجیة التفكیر»، یجعله یعزف بل ویعجز عن إمعان التفكیر في أي موضوع.
ویفترض في عضو الحزب ألا یكون صاحب عواطف خاصة والا یعتري حماسه أي فتور، كما یفترض أن لتستحوذ علیه كراهیة لا یفتر لها سعار إزاء أعداء الخارج وعملاء الداخل، وأن یشعر بنشوة النصر وأن یحقّر ذاته أمام سلطان الحزب وحكمته. وأما ما یعتمل داخله من مشاعر استیاء تتولد لدیه بسبب حیاة الشظف والعناء التي یعیشها فیتم توجیهها عمدا نحو الخارج وتبدیدها بتلك الحیل المبتكرة خلال «دقیقتي الكراهیة»، كما أن التأملات التي ربما تولّد لدى العضو موقفًا ینزع للشك أو التمرد یتم وأدها سلفاً بنظام الانضباط الداخلي الذي اكتسبه في طفولته وتسمى أولى مراحل هذا الانضباط وابسطها، والتي یمكن حتى تلقینها لصغار الأطفال، في اللغة الجدیدة، ب «إیقاف الجریمة». وهي تعني القدرة على وأد، كما لو كان بالغریزة، أي فكرة تنطوي على خطر، وتتضمن أیضاً عدم القدرة على فهم المتشابهات، وعدم القدرة على إدراك الأغلاط المنطقیة، وإساءة فهم أبسط الحجج إذا كانت مناوئة للاشتراكیة الإنجلیزیة، والتبرم والانزعاج من أي أفكار قد تؤدي إلى اتجاهات انحرافیة عن مبادئ الحزب. جملة القول، إن كلمة «إیقاف الجریمة» تعني غباءً وقائیاً، وإن كانت كلمة غباء غیر كافیة في هذا الصدد. وعلى النقیض فإن الولاء للحزب بكل ما تحمل الكلمة من معان یتطلب من المرء إن یتحكم

تحكماً تاماً في العملیات الفكریة التي تدور في ذهنه تماماً مثلما یتحكم لاعب الأكروبات في جسمه. ویتفق المجتمع الأوقیاني في نهایة الأمر على الإیمان بأن الأخ الكبیر قادر على كل شيء وأن

الحزب معصوم عن الخطأ، ولكن لما كان واقع الأمر یقول إن الأخ الكبیر لیس قادراً على كل شيء وأن الحزب لیس معصوماً عن الخطأ، فان ثمة حاجة إلى مرونة دائمة في معالجة الحقائق. والكلمة الرئیسیة في هذا الصدد هي «بیاض السواد»، وهي مثلها مثل كثیر من كلمات اللغة الجدیدة ذات معنیین متناقضین، فإذا استعملت لوصف خصم، فإنها تعني عادةً الادعاء في صفافة بأن الأسود أبیض بما یتناقض مع أبسط الحقائق، أما إذا استعملت مع عضو الحزب فهي تعني الرغبة الصادقة للقول بأن الأسود أبیض حینما یتطلب نظام الحزب ذلك. لكنها تعني أیضا لقدرة على الاعتقاد بأن الأسود أبیض، وأكثر من ذلك أن یعرف المرء أن الأسود أبیض وینسى تماماً أنه كان یعتقد عكس ذلك من قبل، وهذا

یتطلب تغییراً مستمراً للماضي من خلال نهج في التفكیر یحتوي الضدین معاً والذي یطلق علیه في اللغة الجدیدة «ازدواجیة التفكیر».

إن تغییر الماضي ضروري لسببین، أولهما وهو ثانوي أو لنقل احترازي، أن عضو الحزب مثله مثل أي فرد من طبقة البرولیتاریا یحتمل ظروف حیاته الراهنة لأنه لا یملك معاییر للمقارنة، إذ یجب أن ینقطع انقطاعاً كلیاً عن الماضي تماماً كما یجب أن ینقطع عن الأقطار الأجنبیة لأن من الضروري بالنسبة

إلیه أن یؤمن بأنه أفضل حالاً من أسلافه وأن مستوى معیشته ورفاهیته في ارتفاع دائم، وأما السبب الأكثر أهمیة لإعادة رسم الماضي فیكمن في الحاجة إلى حمایة فكرة عصمة الحزب. ولا یتوقف ذلك عند مجرد تحدیث وتعدیل جمیع الخطب والإحصائیات والسجلات بصفة دائمة ومتواصلة إثباتاً لأن تنبؤات الحزب كانت في جمیع الأحوال صائبة فحسب، وإنما یمتد إلى اعتبار أي تغییر في مبادئ الحزب أو في الولاءات السیاسیة أمراً غیر مقبول إطلاقاً وذلك لأن تغییر المرء لرأیه أو حتى لسیاسته هو بمثابة إقرار بالضعف. فإذا كانت أوراسیا أو إیستاسیا مثلا حسبما یصادف الأمر، هي عدو الیوم، فإن هذه الدولة یجب أن تظل دائماً هي العدو. أما إذا كانت حقائق الواقع تقول بغیر ذلك، فحینئذ یجب

تغییر هذه الحقائق، وهكذا تتواصل عملیة إعادة كتابة التاریخ مرة بعد مرة وبلا توقف. ولا یقل هذا التزییف المتواصل للماضي،

والذي تقوم علیه وزارة الحقیقة أهمیة، عن الممارسات القمعیة وأعمال الجاسوسیة التي تقوم علیها وزارة الحب بالنسبة لاستقرار النظام.
إن قابلیة تبدیل الماضي هي العقیدة الرئیسیة في الاشتراكیة الإنجلیزیة، إذ یعتبر الحزب أن أحداث الماضي لیست بذات وجود موضوعي لأنها لا تعیش إلا بین صفحات السجلات المكتوبة وفي ذاكرة الإنسان، فالماضي هو ما تتفق علیه كل من السجلات والذاكرات، ولما كان الحزب یسیطر سیطرة تامة على السجلات

كما على عقول أعضائه، فإن الماضي، تبعاً لذلك، هو ما یریده الحزب وما یشاء أن یصنع منه. وتبعاً لذلك أیضاً وبالرغم من قابلیة الماضي للتبدیل، فإنه لم یتبدل قط في لحظة من اللحظات ذلك أنه عندما تعاد صیاغته في القالب الذي تستلزمه متطلبات المرحلة الراهنة، فإن هذه الصیاغة الجدیدة تصبح هي الماضي ولا ماض سواه قد وجد. ویظل هذا مقبولاً حتى حینما یتعین تغییر حادث بذاته، وهو غالباً ما یحدث مرات عدیدة في غضون سنة واحدة، وفي جمیع هده الأحوال یظل الحزب هو من یملك ناصیة الحقیقة المطلقة، والحقیقة المطلقة في نظره لم تختلف یوماً عما هو علیه واقع الحال. ومن الواضح أن السیطرة على الماضي تتوقف قبل كل شيء على تدریب الذاكرة، وعملیة التأكد من أن

جمیع السجلات المكتوبة تتفق مع الاعتقاد الصحیح المعتمد لا تعدو كونها مجرد عمل آلي. لكن من الضروري أن یتذكر المرء أن الأحداث وقعت بالطریقة المرغوبة. ولئن كان ضروریاً للمرء أن یعید تشكیل ذكریاته أو یعبث بالسجلات المكتوبة، فمن الضروري أیضاً أن ینسى أنه قد فعل هذا. وهذا الاحتیال یمكن أن یتعلمه المرء مثلما یتعلم أي طریقة ذهنیة، وهو الأمر الذي یتعلمه غالبیة أعضاء الحزب وبالأخص الأذكیاء منهم والمخلصین للحزب، وكان یطلق على ذلك في اللغة القدیمة «السیطرة على

الحقیقة» بینما یطلق علیه في اللغة الجدیدة «ازدواجیة التفكیر»

على الرغم من أن ازدواجیة التفكیر تعني كثیراً من الأشیاء الأخرى أیضاً.
فازدواجیة التفكیر تعني القدرة على اعتناق معتقدین متناقضین في آن واحد وقبولهما معاً. فالمفكر الحزبي یعرف الوجهة التي یجب أن تأخذها ذكریاته عند تغاییرها، ویعرف بناء على ذلك أنه یتلاعب بالحقیقة، ولكنه بممارسة ازدواجیة التفكیر یُقنع نفسه بأنه لم یدنّس الحقیقة. ویتعین أن تجري هذه العملیة عن وعي وإدراك وإلا تعذّر تنفیذها بالدقة المطلوبة، كما ینبغي أن تتم بدون وعي أیضاً وإلا فإنها ستولد شعوراً بالزیف ومن ثم بالإثم. إن ازدواجیة التفكیر تقع في صمیم مبادئ الاشتراكیة الإنجلیزیة باعتبار أن المنهج الرئیسي للحزب هو استخدام الخداع الواعي مع الاحتفاظ بثبات الغایة التي تظل محاطة بالصدق. ولذلك لابد لعضو الحزب أن یكذب متعمداً وهو یؤمن في قرارة نفسه بكذبه، وان لینسى أي حقیقة باتت غیر ملائمة، ثم عندما تمس الحاجة إلیها مرة ثانیة فإنهم یستدعونها من غیاهب النسیان، وأن ینكروا وجود الحقیقة الموضوعیة وان یأخذوا بالحسبان ذلك الواقع الذي أنكروه. بل

وحتى عند استعمال عبارة ازدواجیة التفكیر من الضروري أن یمارس المرء ازدواجیة التفكیر، ذلك أن المرء باستعماله هذه العبارة إنما یعترف بأنه إنما یتلاعب بالحقائق، فمع كل مرة یلجأ فیها المرء لازدواجیة التفكیر فإنه یطمس معرفة ما وهكذا دوالیك حتى تتراكم الأكاذیب وتجثم فوق الحقیقة. وفي النهایة فقد استطاع الحزب من خلال ازدواجیة التفكیر أن یظل وربما سیطل لآلاف السنین ممسكاً بناصیة التاریخ.
لقد هوت جمیع الأقلیات الحاكمة إما لأنها تحجرت أو لأنها باتت هشة. فإما أنها أصیبت بالبلادة والغطرسة وعجزت عن مواكبة الطروف المتغیرة مما أفضى بها إلى السقوط، أو أنها أصبحت لیبرالیة جبانة وقدمت تنازلات عندما كان ینبغي علیها اللجوء للقوة ومن ثم سقطت أیضاً. بعبارة أخرى، لقد سقطت هذه الأقلیات إما بوعي أو بدون وعي. وإنه لمما یسجل للحزب انه أوجد نظاماً فكریاً یمكن لهاتین الحالتین أن تتواجدا معاً في آن واحد. ولا یمكن أن تدوم للحزب هیمنة على أي أساس فكري غیر هذا الأساس، فإذا أراد المرء أن یحكم وأن یستمر في الحكم فعلیه أن یكون قادراً على زعزعة الإحساس بالواقع. وذلك لأن سر أسرار الحكم هو جمع المرء بین إیمانه بأنه لا یخطئ وقدرته على التعلم من أخطاء

الماضي.
ولیست هنالك حاجة تدعو للقول بأن أكثر ممارسي ازدواجیة التفكیر دهاء هم أولئك الذین ابتدعوه ویدركون أنه منظومة فعالة للخداع العقلي. وفي مجتمعنا فإن أولئك الأكثر إدراكاً لما یحدث هم نفسهم الأكثر عجزاً عن رؤیة العالم كما هو فعلاً. مجمل القول انه كلما ازداد المرء فهما تسعت هوة الوهم، وكلما اتقد ذكاؤه كان أقل حكمة. والمثال الأوضح على ذلك هو حقیقة أن هستیریا

الحرب تتأجج كلما ارتقى المرء في السلم الاجتماعي، إذ لا یقف من الحرب موقفاً عقلانیاً إلا رعایا الأراضي المتنازع علیها،

فالحرب لدى هؤلاء ما هي إلا إعصار یجتاحهم جیئة وذهاباً، وهم لا یبالون البتة بأي الأطراف سینتصر في الحرب لأنهم یدركون أن تغییر سادتهم لا یعني أكثر من أنهم سیؤدون نفس فروض الطاعة للسادة الجدد والدین سیسومونهم العذاب ذاته الذي كان سادتهم القدامى یسومونهم إیاه. وأما العمال الأفضل حالاً من هؤلاء بقلیل والذین نطلق علیهم «العامة» فلا یشعرون بالحرب إلا على نحو متقطع. ویمكن لهؤلاء حینما تدعو الضرورة أن ینخرطوا في نوبات من الخوف وسعار الكراهیة، غیر أنهم إذا تُركوا وسأنهم فإنهم یصبحون قادرین على النسیان ولفترات طویلة أن ثمة حرباً تدور رحاها. أما الحماس الحقیقي للحرب فلا یوجد إلا في صفوف الحزب، وبالأخص في صفوف الحزب الداخلي حیث توجد تلك الفئة الأرسخ إیمانًا بغزو العالم واحتلاله رغم معرفتهم أن تحقق ذلك إن هو إلا وهم. ویعتبر مثل هذا الجمع

الغریب بین الأضداد - المعرفة مع الجهل، والسخریة مع التعصب - هو من أخص الخصائص الممیزة للمجتمع الأوقیاني. وتزخر الأیدیولوجیة الرسمیة بالمتناقضات حتى حینما لا یكون ثمة سبب فعلي یستدعي ذلك، وهكذا فإن الحزب یرفض كل مبدأ أیدته الحركة الاشتراكیة في الأصل، بل ویحط من قدره وهو حینما یفعل ذلك فإنما یفعله باسم الاشتراكیة، ویدعو الحزب لازدراء الطبقة العاملة ازدراء لم یسبق له مثیل في القرون الماضیة وفي الوقت نفسه یلبس أعضاءه زیاً موحداً كان في یوم من الأیام لیمیز العمال الیدویین، ولهذا السبب اختاره الحزب. ویعمل الحزب بصورة منهجیة على تقویض دعائم التماسك الأسري، ویطلق على زعیمه اسم «الأخ الكبیر» وهو رمز مباشر للولاء الأسري، بل وحتى أسماء الوزارات الأربع التي تحكمنا تبدي شیئاً من الصفاقة فیما تمارسه من قلب متعمد للحقائق، فوزارة السلام تعنى بشؤون الحرب، ووزارة الحقیقة مهمتها التزویر وخلق الأكاذیب، ووزارة الحب تسوم الناس العذاب، أما وزارة الوفرة فتعنى بتجویع الناس حتى الموت. ولیست مثل هذه المتناقضات عرضیة كما أنها لیست نتاجاً لریاء عادي، بل هي ممارسات مدروسة ومخططة لازدواجیة التفكیر، ذلك أنه لا یمكن الاحتفاظ بالسلطة إلى الأبد إلا عبر التوفیق بین المتناقضات، ولیس ثمة طریق آخر لكسر الحلقة

القدیمة. وإذا كان ینبغي تجنب المساواة بین البشر إلى الأبد، أي إذا كان على الطبقة العلیا كما أسمیناها أن تحتفظ بموقعها بصفة دائمة، فإن علیها السیطرة على الحالة الفكریة السائدة التي هي

الجنون.
ولكن ثمة سؤال واحد تغاضینا عنه حتى الآن وهو: لماذا یجب تجنب المساواة بین البشر؟ وإذا افترضنا أن آلیات العملیة قد وصفت وصفاً دقیقًا، فما هو الدافع وراء هدا الجهد الضخم والمنظم بدقة وعنایة من أجل تجمید التاریخ عند لحظة معینة في الزمن؟

وهنا نصل إلى سر الأسرار، فكما رأینا فإن هالة الغموض التي تحیط بالحزب وعلى الأخص بالحزب الداخلي تعتمد على ازدواجیة التفكیر، ولكن الأعمق من ذلك هو الدافع الأصلي والغریزة التي لم تكن مثار شك أبداً والتي كانت الحافز الأول للقفز على السلطة وجاءت بازدواجیة التفكیر ثم شرطة الفكر

وحالة الحرب الدائمة وجمیع المظاهر الأخرى الضروریة التي ظهرت للوجود فیما بعد. ویتضمن هذا الدافع فعلا من ...
وهنا أصبح ونستود یشعر بالصمت كما یشعر المرء بصوت جدید انبعث حوله، وخیل إلیه أن جولیا كانت ساكنة الحركة لفترة طویلة، وكانت ترقد على جنبها وعاریة من الخصر فما فوق وقد توسدت راحة یدها وتدلت خصلة شعر بین عینیها بینما كان صدرها یعلو ویهبط على نحو بطيء ومنتظم، فناداها:
- جولیا.فلم تحر جوابا.
- جولیا هل أنت مستیقظة؟

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك