رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثامن والعشرون


كانت نوبة الفزع التي انتابت ونستون قد أخذت في الزوال. ولشعوره بالخجل من نفسه جلس متكئاً على مقدمة السریر، في حین كانت جولیا قد نهضت وارتدت زیها الرسمي وأعدت القهوة. كانت الرائحة المتصاعدة من الغلایة قویة ونفاذة حتى أنهما أوصدا النافذة خشیة تسربها إلى الخارج لئلا تلفت الأنظار وتصبح الغرفة مثارا للشكوك. ولم یكن ثمة ما هو ألذ مذاقاً من القهوة إلا ذلك الطعم حریري الملمس الذي أكسبها إیاه السكر، الذي كاد ونستون ینساه بعد أن ظل لسنوات لا یستعمل إلا السكرین.

أما جولیا فقد أخذت تتجول في الغرفة وقد دست إحدى یدیها في جیبها فیما الأخرى تمسك بقطعة خبز بالمربى وهي تتطلع بلا مبالاة إلى رف الكتب في محاولة لاستكشاف أفضل الطرق لإصلاح قوائم الطاولة المطویة، ثم ألقت بنفسها فوق المقعد البالي ذي المسندین لترى ما إذا كان مریحاً أم لا؟ ثم مضت تتفحص الساعة ذات الاثني عشر رقماً عتیقة الطراز بارتیاح من یتسلى بشيء، ثم حملت الثقل الزجاجي إلى السریر لتمعن النظر فیه. ولكنه أخذها من یدها مأخوذاً كالعادة بمنظر الزجاج الناعم الذي یشبه ماء المطر.
فسألته جولیا: «ماذا تظن هذا یا ترى؟»
- لا أظن أنها شيء مهم، أقصد أنه لم یسبق لها أن كانت ذات فائدة في یوم من الأیام. وهذا هو ما أحبه فیها. إنها أثر من الماضي فاتهم أن یمحوه. إنها رسالة یعود تاریخها إلى مئة عام،

هذا إن استطاع المرء أن یقرأها.
وأومأت جولیا صوب الصورة ذات القضبان المحفورة والمعلقة فوق الحائط قائلة: «وماذا عن هذه الصورة؟ هل یمكن أن یكون عمرها مئة عام؟»

أجاب ونستون: «أكثر من ذلك، ربما مئتي عام. لكن هذا ما لا یستطیع أحد أن یجزم فیه، فقد بات من المستحیل على المرء أن یحدد عمر أي شيء في هذه الأیام».
ودنت جولیا من الصورة لتمعن النظر فیها ثم قالت وهي تركل الغطاء الخشبي للحائط أسفل الصورة مباشرة: «ها هو الثقب الذي أطل الجرذ اللعین بأنفه منه. ما هذا المكان؟ أذكر أنني رأیته قبل ذلك».
قال ونستون: «إنها كنیسة، أو على الأقل كانت كنیسة القدیس سانت كلیمنت دان».
وحینئذ كانت أصداء مقطع الأغنیة التي لقنه إیاها السید شارنغتون قد عاد یتردد في ذاكرته وأضاف بلهجة مفعمة بالحنین إلى الماضي:
«برتقال ولیمون، تقول أجراس سانت كلیمنت!»
ولدهشته أكملت جولیا المقطع بما یلي:
«إنك مدین لي بثلاث فارذنج، تقول أجراس سانت مارتن، فمتى ستدفعیها؟

تقول أجراس أولد بایلي...»
وأضافت تقول: «لست أذكر ماذا تقول الأغنیة بعد ذلك. ولكني أذكر أنها تنتهي على النحو الآتي:

ها هي شمعة تستضيء بها إلى فراشك، وها هو سیف لحز رقبتك».
كان الأمر أشبه بمقطعین تتألف منهما كلمة سر، ولكن كان لا بد أن یكون ثمة شطر آخر بعد «أجراس أولد بایلي»، ربما یمكن انتزاعه من ذاكرة السید شارنغتون إذا أمكن تذكیره به على نحو مناسب.

سألها: «لكن من علمك هذا؟»
- إنه جدي، لقد اعتاد أن یرددها لي وأنا بعد فتاة صغیرة. لقد تبخر عندما كنت في الثامنة أو اختفى على أي حال. وأضافت بشكل غیر متجانس: ترى ماذا كان شكل اللیمونة؟ لقد رأیت البرتقال، إنه فاكهة مستدیرة صفراء اللون ذات قشرة سمیكة.
قال ونستون: «أنا أستطیع تذكر اللیمون، لقد كان شائع الانتشار في الخمسینات وكان شدید الحموضة إلى حد یجعلك تصرین صریراً على أسنانك بمجرد أن تتذوقیه».
قالت جولیا: «أراهن أن هذه الصورة تؤوي بقّاً خلفها. سوف أنزلها من مكانها وأنظفها جیداً في یوم من الأیام. أظن أن وقت انصرافنا قد حان. یجب أن أبدأ في إزالة هذه الزینة عن وجهي، یا له من عمل مزعج. وسوف أزیل أحمر الشفاه عن وجهك فیما بعد».
ولم ینهض ونستون رغم مرور بضع دقائق أخرى. كان الظلام قد بدأ یسدل ستاره على الغرفة، فاستدار ناحیة انبعاث الضوء وراح یحدق في الثقل الزجاجي. وما كان یثیر لدیه دهشة لا تنقطع لیس قطعة المرجان بل لب الزجاج الذي یحیط بها والذي كان یبدو شفافاً كالهواء رغم عمقه السحیق. وبدا كما لو أن سطح الزجاج قوساً سماویاً یضم عالماً صغیراً بكل أجوائه. وانتابه شعور بأنه یمكنه أن یدلف إلى هذا العالم، بل إنه في الواقع موجود بداخله مع السریر الخشبي والطاولة المطویة والساعة والقضبان المحفورة والثقل الزجاجي ذاته. فالثقل بمثابة الغرفة التي تحتویه وقطعة المرجان هي حیاة جولیا وحیاته وهما مثبتتین بنوع من الروابط الأبدیة في قلب البلور ذاته.
............................................
اختفى سایم. ففي ذات صباح تغیّب عن عمله، ولم یتساءل عن سبب اختفائه إلا بضعة أشخاص مغفلین. وفي الیوم التالي أصبح طي النسیان ولم یأت على ذكره أحد، وفي الیوم الثالث ذهب ونستون إلى قاعة قسم السجلات لیلقي نظرة على لوحة الإعلانات، وكانت إحداها تحمل لائحة بأسماء أعضاء لجنة الشطرنج التي كان سایم عضواً فیها، وبدت اللائحة كما كانت تبدو من قبل تماماً، إلا أنها نقصت اسما واحداً. وكان في ذلك دلالة كافیة على أن سایم لم یعد له وجود، بل لم یكن له وجود من قبل على الإطلاق.
كان الطقس حاراً جداً، وفي الوزارة الأشبه بالمتاهة والمعدومة النوافذ كانت الغرف مكیفة الهواء تحتفظ بدرجة حرارة طبیعیة،

أما في الخارج فكان لهیب الحرارة على الأرصفة یشوي أقدام المارة كما كانت رائحة قطارات الأنفاق المزدحمة في ساعات الذروة تزكم الأنوف، وكانت الاستعدادات لأسبوع الكراهیة تجري على قدم وساق، وموظفو كافة الوزارات یعملون ساعات إضافیة، إذ كان یتعین علیهم تنظیم المواكب والاجتماعات والاستعراضات العسكریة والمحاضرات والتماثیل الشمعیة والعروض السینمائیة وبرامج شاشات الرصد، كما كانوا یعملون على نصب الحوامل للتماثیل وصنع دمى لشخصیات معینة ونقش الشعارات وصیاغة الأغاني وإطلاق الشائعات وتزییف الصور. ولذلك توقفت وحدة جولیا في قسم الخیال عن إنتاج الروایات من أجل الإسراع في إصدار سلسلة من المنشورات التي تصور الفظاعات التي یقترفها

الأعداء.

أما ونستون فكان، إضافة إلى عمله المعتاد، یصرف الساعات الطوال كل یوم في مراجعة ملفات الأعداد القدیمة من صحیفة التایمز وذلك لتغییر أو تحریف فقرات إخباریة كان یتعین الاستشهاد بها فیما سیلقى من خطابات.

في تلك الأیام كانت المدینة في حركة محمومة حیث تنزل الجموع المثیرة للشغب من العامة لتطوف في الشوارع في أوقات متأخرة من اللیل، كلما كانت القذائف الصاروخیة تتساقط على المدینة بمعدل یفوق أي وقت آخر، وكان دوي انفجارات هائلة یُسمع عن بعد دون أن یجد أحد تفسیراً له، الأمر الذي كان یسمح بتطایر شائعات لا معقولة حولها.
وكان اللحن الجدید لأغنیة أسبوع الكراهیة (وكانوا یطلقون علیها أغنیة الكراهیة) یبث عبر شاشات الرصد دون توقف. لحن كان في عمومه أبعد ما یكون عن الموسیقى بسبب ما كان یمیزه من إیقاع وحشي یجعله أقرب إلى نباح الكلاب وأشبه بدق الطبول،

كما كان یزرع الذعر في النفوس حینما تزأر به مئات الحناجر على وقع أقدام الجند وهي تضرب الأرض. أما العامة فقد أغرموا بها حتى أنها دخلت في المنافسة مع الأغنیة القدیمة التي كانت لا تزال تحظى لدیهم بشعبیة كبیرة والتي تقول «كان حلماً مقطوع الرجاء»، كما كان أطفال بارصون یعزفونها لیل نهار وبصورة لا تحتمل على أسنان مشط وقطعة من ورق الحمام. وهكذا أصبحت أمسیات ونستون أكثر ازدحاماً بالمهام من أي وقت مضى، كما شكلت فرق من المتطوعین یقودها بارصون كانت مهمتها هي إعداد الشوارع لاستقبال أسبوع الكراهیة، فیحیكون الرایات ویرسمون الصور ویخطون اللافتات وینصبون صواري الأعلام فوق المنازل ویمدون الأسلاك عبر الشوارع، بشكل یعرضهم للخطر، لاستقبال المحتفلین من حَملَة الأعلام. وكان بارصون یباهي، وهو في أوج نشاطه وسعادته، بأن بنایات النصر وحدها ستعرض أربعمائة متر من قماش الرایات، كما بدا أن شدة الحرارة والعمل الیدوي قد أعطیاه الذریعة للعودة إلى ارتداء السروال القصیر والقمیص المفتوح في المساء، كما غدا شعلة من النشاط والحركة إذ تراه دافعاً شیئاً وجاراً آخر، ناشراً أو طارقاً بمطرقة، یلاطف هذا ویمازح ذاك بطریقة رفاقیة، ویقوم بما تملیه علیه المواقف. وهو في كل ذلك كان یطلق من كل طیة من طیات جسمه ما بدا معیناً لا ینضب من عرق كریه الرائحة یزكم الأنوف.

وفجأة ظهرت ملصقة جدیدة في كافة أرجاء لندن، لم تكن تحمل أي كتابات أو تسمیة بل كانت تمثل صورة مخیفة لجندي أوراسي یراوح طوله ما بین ثلاثة إلى أربعة أمتار وهو یخطو إلى الأمام بوجه منغولي جامد الملامح منتعلاً حذاء ضخماً ومتأبطاً مدفعاً رشاشاً. ومن أي زاویة نظرت إلى الملصقة بدت فوهة المدفع على نحو أكبر وأقرب وهو یسددها ندوك مباشرة. ولم یُترك مكان خال على جدار في لندن إلا وعلقت علیه هذه الملصقة حتى أنها فاقت صور الأخ الكبیر عدداً، بل لقد كانت تدفع بالعامة الذین

یقفون في العادة موقفاً لامبالیاً من الحرب إلى الانخراط في نوبات من السعار الوطني. وانسجاماً مع هذه الأجواء كانت القذائف الصاروخیة تتساقط مسببة في إزهاق الأرواح بأعداد أكثر من المعتاد، وحدث أن سقطت إحداها على قاعة سینما غاصة بروادها في حي «ستیبني» فدفنت مئات الضحایا تحت الأنقاض، فخرج جمیع سكان الجوار للتشییع في جنازة ضخمة سارت لساعات طویلة وقد كانت في الحقیقة مسیرة غضب. كما سقطت قذیفة أخرى على قطعة أرض خربة كان یستخدمها الأطفال كملعب فمزقت العشرات منهم إلى أشلاء. وكانت ثمة مظاهرات ساخطة تجوب الشوارع تُحرق فیها دمى تمثّل غولدشتاین وتُمزق المئات من الملصقات التي تصور الجندي الأوراسي ویقذف بها جمیعاً
لألسنة اللهب، ثم تنهب المتاجر أثناء أعمال الشغب التي تترافق مع المظاهرات. وسرت شائعة بعدئذ مفادها أن جواسیس كانوا یوجهون هذه القذائف الصاروخیة عبر موجات لاسلكیة، فقام المتظاهرون بإضرام النیران في أحد المنازل العائدة لزوجین عجوزین من أصل أجنبي كانت الشكوك قد ثارت حول ضلوعهما في ذلك فماتا اختناقاً بالدخان.

جولیا وونستون وكلما تسنى لهما بلوغ الغرفة الكائنة فوق حانوت السید شارنغتون كانا یضطجعان جنباً إلى جنب فوق السریر المجرد من الأغطیة تحت النافذة وهما عاریین جراء شدة الحرارة. وبالرغم من أن الجرذان لم تعاود الظهور فإن البق قد تكاثر على نحو مخیف بسبب الحرارة الشدیدة، ولكن یبدو أن أیاً
من ذلك لم یكن ینتقص من سعادتهما، فقد كانا یعتبرانها جنة سواء أكانت قذرة أو نظیفة، وكانا بمجرد وصولهما إلى الغرفة یمطران كل شيء بوابل من الفلفل الذي ابتاعاه من السوق السوداء، ثم ینزعان ثیابهما ویمارسان الحب معا والعرق یتصبب من جسدیهما حتى یستغرقا في نوم عمیق، فإذا ما أفاقا وجدا البق وقد جمع صفوفه واحتشد لشن هجوم مضاد.
وقد بلغ عدد مثل هذه اللقاءات خلال شهر حزیران ما بین أربعة إلى سبعة. وفي هذه الأثناء كان ونستون قد أقلع عن عادة شرب الجن تماماً وكأنه لم یعد بحاجة إلى ذلك، كما غدا جسمه أكثر امتلاء ولم تعد دوالي ساقیه ظاهرة عدا بقعة بنیة فوق كاحله

وأخیراً حدث ما كان ونستون یترقبه، لقد جاءته الرسالة المرتقبة

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك