رواية 1984 لجورج أورويل : القسم الثاني والعشرون


وفي الیوم التالي عاودت الفتاة الظهور وقد حررت ذراعها من رباطه مكتفیة بوضع ضمادة حول معصمها. وكانت رؤیته لها

مبعثاً لارتیاح غامر لدیه حتى أنه لم یستطع مقاومة الرغبة في النظر إلیها مباشرة لعدة ثوان. وفي الیوم التالي كان قاب قوسین أو أدنى من إمكانیة التحدث إلیها، إذ عندما دلف إلى المطعم كانت تجلس إلى مائدة بعیدة عن الحائط وكانت بمفردها. ولما كان الوقت مبكراً، فإن المطعم لم یكن قد امتلأ بعد برواده. وتحرك الطابور إلى الأمام حتى أصبح ونستون أمام طاولة تسلیم الطعام،

ثم توقف لدقیقتین لأن شخصاً من الذین یتقدمونه في الصف راح یشكو من عدم تسلمه قرص السكر. ولكن الفتاة كانت لا تزال بمفردها عندما أكمل ونستون صینیته وبدأ یسیر متظاهراً بعدم الاكتراث بینما كانت عیناه تبحثان في المكان عن مائدة تقع خلفها.

وسار نحوها حتى بات لا یفصله عنها سوى ثلاثة أمتار. ولم یبق غیر ثانیتین ویتحقق مراده. وعندئذ تناهى إلى سمعه صوت قادم من خلفه ینادي «سمیث» فتظاهر بأنه لم یسمع. فعاد الصوت یكرر النداء «سمیث». فأدرك أن لا فائدة من التظاهر بعدم السماع واستدار یتطلّع وراءه فإذا به یرى ذلك الشاب الأشقر الشعر الغبي، الذي یدعى ویلشر والذي بالكاد كان یعرفه، یدعوه مبتسماً لمكان شاغر بجانبه. ولم یكن رفضه لتلك الدعوة بمأمون العاقبة. فبعد أن عرفه بعض من في المطعم لم یعد بمقدوره أن یذهب ویجلس قبالة مائدة تجلس إلیها فتاة بمفردها، فقد كان ذلك لافتاً للأنظار ولذا جلس مع ویلشر وعلى شفتیه ابتسامة غیر ودیة.

وتهلل لذلك وجه الشاب الغبي. وعندئذ تراءى لونستون أن یحطم هذا الوجه بفأس فیشقّه نصفین. وما هي إلا دقائق قلیلة حتى كانت مائدة الفتاة قد امتلأت.

ولكن لا بد أنها لاحظته مقبلاً نحوها ولربما فهمت المغزى. وفي الیوم التالي حرص ونستون على المجيء إلى المطعم مبكراً،

فوجدها جالسة بمفردها في المكان نفسه. وكان یتقدمه في الطابور مباشرة رجل ضئیل الجسم سریع الحركة أشبه بالخنفساء ذو وجه منبسط وعینین صغیرتین مریبتین وما إن ابتعد عن طاولة التوزیع وهو یحمل صینیته حتى اتجه إلى مائدة الفتاة كالسهم، فضاعت آمال ونستون الذي تبعه وقد تجمد الدم في عروقه، ولكن لا جدوى من لقائه بالفتاة ما لم یكن على انفراد.

في هذه اللحظة سمع صوت ارتطام وإذا بالرجل الضئیل قد هوى أرضاً على أطرافه الأربعة بینما طارت الصینیة في الهواء وجرى منها جدولان من الحساء والقهوة فوق أرضیة القاعة. نهض الرجل على قدمیه وهو یرمق ونستون بنظرات عدائیة. كان واضحا أنه یشك في أن ونستون قد عرقله من الخلف. غیر أن كل شيء مر بسلام. وبعد خمس ثوان كان ونستون یجلس إلى مائدة الفتاة بینما راحت دقات قلبه تدوي كالرعد.
لم یرفع نظره إلى عینیها. بل أخذ ینقل أوعیة الطعام من الصینیة إلى الطاولة وشرع في التهام طعامه على الفور. كان أمراً بالغ

الأهمیة أن یبادر بالحدیث إلیها قبل مجيء أي شخص آخر، ولكن شعوراً فظیعاً بالخوف قد انتابه، فقد انقضى أسبوع كامل على أولى بوادرها نحوه ولربما تكون قد غیرت رأیها، بل لابد أنها قد غیرت رأیها! كان من المستحیل أن تكلل مثل هذه العلاقات بالنجاح. إن ذلك لا یحدث على أرض الواقع. ولعله كان سیحجم عن الحدیث إلیها لولا رؤیته أمبلفورث في تلك اللحظة، الشاعر ذا الأذنین كثیفتي الشعر، وهو یتجول في أنحاء قاعة المطعم على مهل ومعه صینیة باحثاً عن مكان شاغر. كان ثمة وشیجة غامضة تربط أمبلفورث بونستون ومن المؤكد أنه لن یتردد في الجلوس معه إن هو رآه. لم یكن أمام ونستون غیر دقیقة واحدة للعمل. كان ونستون والفتاة منهمكین في التهام الطعام دون توقف. وكان ما یتناولانه عبارة عن حساء فاصولیا. وبصوت هادى وأشبه بالغمغمة كسر ونستون حاجز الصمت بینهما دون أن یرفع أي منهما عینیه عن صینیته مواصلین تناول الحساء. وبین ملعقة وأخرى تبادلا بعض الكلمات الضروریة بصوت خفیض ودون أن یعتري وجهیهما أي أنفعال.
- أي ساعة تتركین عملك؟
- السادسة والنصف مساء.
- أین یمكن أن نلتقي؟
- ساحة النصر قرب التمثال.
- إنها ملیئة بشاشات الرصد.
- لا خوف إذا كانت مزدحمة بالناس.
- هل من إشارة؟
- كلا، لا تقترب مني إلا إذا رأیتني بین حشد من الناس. ولا تنظر نحوي بل ابق على مقربة مني.
- في أي وقت؟
- السابعة مساء.
- حسناً.
لكن أمبلفورث لم یر ونستون، فجلس إلى مائدة أخرى. أما ونستون والفتاة فلم یتبادلا كلمة واحدة بعد ذلك وكانا یتحاشیان تبادل النظر ما استطاعا إلى ذلك سبیلاً. فرغت الفتاة من غدائها على عجل وانصرفت، في حین بقي ونستون یدخن سیجاره.
ذهب ونستون إلى ساحة النصر قبل حلول الموعد المضروب وراح یدور حول النصب الهائل الحجم ذي الشكل الأسطواني،

المنتهي بتمثال ضخم للأخ الكبیر وهو یحدق جنوباً في الأفق حیث عقد له النصر على الطائرات الأوراسیة (قبل سنوات كانوا

یقولون طائرات شرقاسیا) في معركة خاضتها المحطة الجویة رقم 1. في الشارع وأمام التمثال كان هناك تمثال آخر لرجل یمتطي حصاناً یفترض أنه أولیفر كرومویل. مضت خمس دقائق على الموعد ولم تظهر الفتاة فانتاب ونستون خوف شدید من جدید إذ ظن أنها لن تأتي وأنها قد عدلت عن رأیها. راح یتقدم ببطء إلى الطرف الشمالي من الساحة وقد علا وجهه نوع من السرور الباهت عندما وقعت عیناه على كنیسة القدیس مارتن التي كانت أجراسها، حینما كانت لها أجراس، تدق نغمات «أنت مدین لي بثلاث فارذنج». ثم فجأة رأى الفتاة واقفة عند قاعدة التمثال وهي تقرأ، أو تتظاهر بقراءة، ما كتب على قاعدة التمثال، ولم یكن من المأمون أن یقترب منها قبل أن یتجمع المزید من الناس حولها،

فشاشات الرصد تملأ المكان. بید أنه في هذه اللحظة انبعث صوت هتافات وسمع أزیز عربات ثقیلة تنطلق من الناحیة الیسرى. وفجأة سادت حالة من الهرج والمرج في الساحة. تسللت الفتاة من بین تماثیل الأسود عند قاعدة النصب ثم غرقت في الزحام. وتبعها ونستون بینما كان یُعلَن أن قافلة من أسرى الحرب الأوراسیین كانت تمر.
كانت جماهیر كثیفة من الناس قد تقاطرت على الساحة حتى أغلقت طرفها الجنوبي. فرأى ونستون نفسه، وهو الذي في

الأوقات العادیة ینأى عن كل أشكال العراك، وقد راح یشق طریقه بالمناكب ویدفع ویلكز لیشق طریقه إلى وسط الحشود. وسرعان ما بات على مبعدة ذراع واحدة من الفتاة. ولكن الطریق كان مسدوداً برجل ضخم الجثة من العامة وامرأة بحجمه تقریباً، ربما تكون زوجته، وكأنهما یشكلان معاً حائطاً بشریاً لا یمكن اختراقه.

شق ونستون طریقه بصعوبة حتى حشر كتفه بینهما بعنف. للحظة من الزمن أحس وكأن أحشاءه قد انسحقت بین هاتین الكتلتین من اللحم. لكنه نجح في اختراقهما وقد تصبب عرقاً. أخیراً وجد نفسه إلى جانب الفتاة كتفاً لكتف وكلاهما یحدق أمامه دون أن یلتفت إلى الآخر.
كان هناك رتل طویل من الشاحنات، تحمل حراساً ذوي وجوه خشبیة ومسلحین بالبنادق الألیة یقفون منتصبین في كل زاویة من زوایا الشاحنات، یمر ببطء في الشارع. وفي الشاحنات كان یجلس رجال ضئیلو الأجسام ذوو بشرة صفراء وثیاب خضراء رثة اكتظت بهم الشاحنات وراحت وجوههم المنغولیة البائسة تحدق من فوق جوانب الشاحنات فاغرین أفواههم غیر عابئین بشيء.

وكنت تسمع من حین لآخر قعقعة الأغلال الحدیدیة التي سربلوا بها كلما تأرجحت شاحنة. شاحنات تلو شاحنات من الأسرى

المساكین كانت تمر. وكان ونستون یشعر بوجود هذه الوجوه لكنه كان یراهم على نحو متقطع، إذ كانت الفتاة تقف بجانبه وقد التصقت ذراعها الیمنى بمرفقه، وكانت وجنتها قریبة منه بحیث كان یحس حرارتها. وسرعان ما أمسكت الفتاة بزمام الموقف مثلما فعلت حینما كانت في المطعم. وابتدرته بالكلام وبالصوت نفسه الخالي من الانفعالات كالعادة، حیث كانت شفتاها لا تتحركان إلا بالكاد ولا یخرج منهما إلا همس یكاد یضیع وسط طنین الأصوات وقرقعة الشاحنات.
- هل تسمعني !
- أجل.
- هل یمكنك الحصول على إذن من العمل بعد ظهر الأحد؟
- أجل.
- إذن اصغ إلى بعنایة وانتبه جیداً لكل ما سأقوله. اذهب إلى محطة بادنجتون...

وبدقة عسكریة متناهیة أدهشته، أخذت توضح له الطریق الذي یسلكه كالتالي: رحلة بالقطار تستغرق نصف ساعة، ثم الانعطاف یساراً خارج المحطة ثم السیر كیلومترین عبر طریق حتى یصل إلى بوابة نُِزع قضیبها العلوي اعبرها إلى طریق عبر الحقول یؤدي إلى ممر مغطى بالعشب عبر شجیرات صغیرة إلى أن تصل إلى شجرة میتة علیها طحالب كثیرة. كان الموقف یبدو كما لو كانت تحمل خریطة داخل رأسها.
وأخیراً سألته بصوت خفیض:
- هل یمكنك تذكر كل ذلك؟
- أجل.
- إذن، انعطف یساراً ثم یمیناً فیساراً ثانیة لتجد بوابة نُِزع قضیبها العلوي.
- فهمت، لكن في أي وقت؟
- حوالي الساعة الثالثة. ربما ستضطر للانتظار لأنني سأسلك طریقاً آخر. لكن هل أنت متأكد أنك تتذكر جیداً كل ما قلت؟
- أجل.
- إذن ابتعد عني بأسرع ما یمكن.
لم تكن تحتاج إلى قول ذلك. فقد ظلا لفترة من الزمن عاجزین عن تخلیص نفسیهما من الجماهیر المحتشدة. كانت الشاحنات لا تزال تتتابع والناس فاغرین أفواههم دهشة وعجباً. في البدایة كان هناك قلیل من صیحات الاستهجان والصفیر وكانت تنبعث من أعضاء الحزب فقط ولم تلبث أن توقفت. فقد كانت غریزة حب الاستطلاع تخیم على الأجواء. فالأجانب سواء كانوا من أوراسیا أو شرقاسیا ینظر إلیهم كنوع من الحیوانات الغریبة. إذ لم یكن المرء یراهم إلا في ثیاب السجناء وحتى في ذلك لم یكن یستطیع أن یراهم إلا للحظات عابرة كما أن مآلهم كان یظل مجهولاً، فباستثناء تلك القلة منهم الذین یشنقون باعتبارهم مجرمي حرب، كان الباقون یختفون تماماً عن الأنظار ولعلهم یرسلون إلى معسكرات الأشغال الشاقة.

وغابت الوجوه المنغولیة المستدیرة لتحل محلها وجوه أوروبیة قذرة ذات لحى یظهر علیها أثر الإرهاق. ومن فوق خدود ناتئة

العظام كانت عیونهم تنفذ إلى عیني ونستون. فتارة تكون نظراتهم قاسیة وتارة تذهب بعیداً. وبینما كان رتل الشاحنات یقترب من نهایته رأى ونستون في آخرها عجوزاً كهلاً، وقد اكتسى وجهه بشعر أشیب كثیف، یقف منتصباً وقد عقد معصمیه معاً بشكل متقاطع أمام صدره كما لو كان قد اعتاد أن یجدهما موثوقین معاً.

وكان الوقت قد حان لافتراق ونستون والفتاة. ولكن في اللحظة الأخیرة وفیما كانت الجماهیر ما زالت محتشدة شبكت یده بیدها وضغطت علیها.
لم یستغرق هذا التشابك بین یدیهما أكثر من عشر ثوان، ومع ذلك بدا أنهما قد تشابكتا مدة أطول. وكان في ذلك ما یكفي ونستون لمعرفة كل تقاطیع راحة یدها تفصیلاً ّ. فقد تلمس الأصابع الطویلة والأظافر حسنة التقلیم، وراحة الید التي اخشوشنت من أثر العمل وتلمس اللحم الناعم عند المعصم. وكان مجرد تحسسه لها قمیناً بأن یعرفها لاحقاً مع أنه لم یرها. وفي اللحظة ذاتها خطر بباله أنه لم یعرف لون عینیها. ربما كانتا بنیتین. ولكن ذوي الشعر الأسود قد تكون عیونهم زرقاء اللون أحیاناً. وكان من الحمق الشدید أن یلتفت لینظر إلى عینیها. فقد ظلا یحدقان أمامهما باستمرار حتى حین تشابكت یداهما. وبدلاً من أن یتطلع ونستون في عیني الفتاة،

رأى عیني الأسیر الكهل تحدقان بكآبة في عینیه من خلال شعر وجهه الكثیف.

وجد ونستون نفسه یسیر عبر ممر یخیم علیه الظل حیناً ویغمره الضوء حیناً آخر، وكان عندما یسرع الخطى تزل به قدمه في

برك من الماء أكسبتها أشعة الشمس المتسربة من خلال أغصان الأشجار لوناً ذهبیاً. وكانت الأرض تحت الأشجار التي عن یساره تكتسي بزهور زرقاء تشبه الجرس في تكوینها. وكان یبدو أن الهواء یداعب الوجوه، لَم لا والیوم هو الثاني من أیار. ومن مكان ما في قلب الغابة كان ینبعث هدیل الحمام.
كان ونستون قد وصل إلى مكان اللقاء قبل الموعد المضروب دون أن تواجهه أي صعوبات أثناء الطریق. إذ یبدو أن الفتاة كانت ذات خبرة واسعة تجعلها موضع ثقة في تخیّر الأماكن الآمنة، حتى إن الفزع الذي اعتراه في أثناء رحلته كان أقل مما یكون علیه في المعتاد. ومع ذلك لیس للمرء أن یحسب أنه أكثر أماناً في الریف مما هو في لندن. نعم یخلو الریف من شاشات الرصد، بید أن خطراً آخر یكمن فیه ألا وهو المیكروفونات المخبأة عن العیون والتي یمكنها التقاط صوتك وتمییزه، فضلاً عن أنه لم یكن من السهل أن تقوم برحلة بمفردك دون أن تلفت إلیك الأنظار.

وبالرغم من أنه لم یكن من الضروري أن تحصل على جواز مرور ما دامت رحلتك لا تتجاوز المئة كیلو متر. ولكن محطات

السكك الحدیدیة تكون أحیاناً مرتعاً لرجال الدوریة، فإذا ما صافدت هنالك أحد أعضاء الحزب فإنها تستوقفه لفحص أوراقه

واستجوابه بأسئلة محرجة. غیر أنه لم تعترض ونستون في رحلته أي دوریات، ومع ذلك كان وهو في طریقه من المحطة یأخذ

جانب الحذر ویتلفت خلفه مرة تلو أخرى خشیة أن یكون ثمة من یقتفي أثره. كان القطار مزدحماً بالعامة الذین تخیم علیهم أجواء الانتعاش المصاحبة للعطلة في طقس صیفي لطیف. وكانت العربة ذات المقاعد الخشبیة التي استقلها ونستون تغص بأسرة واحدة كبیرة العدد تراوح أعمار أفرادها ما بین جدة طاعنة في السن وطفل رضیع ابن شهر واحد. كانت هذه الأسرة ذاهبة لقضاء بعض الوقت لدى بعض أصهارهم في الریف وأیضاً، وحسبما عبّروا بصراحة لونستون، الحصول على قلیل من الزبد من السوق السوداء.

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك