رواية 1984 لجورج أورويل : القسم العاشر


ثم تصبح ثانیة غیر واع الذاتي التي مارستها على نفسك. بل حتى إن فهم عبارة التفكیر الازدواجي تستدعي منك اللجوء للتفكیر الازدواجي. ومرة ثانیة دعتهم المدربة لاتخاذ وضع الاستعداد: «الآن دعونا نرى من منا یستطیع أن یلمس أصابع قدمیه» نادت بحماس، ثم أردفت قائلة «ابدأوا من فوق الوركین، رجاء أیها الرفاق. واحد، اثنان! واحد، اثنان! ...»
كان ونستون یكره هذا التمرین الذي یسبب له آلاماً حادة من كعبیه إلى إلیتیه وغالباً ما كان ینتهي بنوبة سعال حادة. لم یكن له غیر تأملاته ما یجعله مسروراً إلى حد ما. إن الماضي، كما تراءى له، لم یتغیر فحسب، بل اجتث من جذوره. إذ كیف یمكن أن تبرهن على أكثر الحقائق جلاء حینما لا یكون لدیك أي سجل لها خارج ذاكرتك؟

هنا حاول ونستون أن یتذكر في أي سنة سمع للمرة الأولى بالأخ الكبیر. یخیل إلیه أن ذلك كان في الستینات، لكنه من رابع المستحیلات أن یتأكد من ذلك. ففي سجلات الحزب یصور الأخ الكبیر طبعاً باعتباره زعیم الثورة وحامیها والقیّم علیها منذ

أیامها الأولى. ومآثره كانت تتوغل تدریجیاً في الماضي حتى وصلت إلى عالم الأربعینات والثلاثینات الخرافي، عندما كان الرأسمالیون، بقبعاتهم الأسطوانیة الغریبة، ما زالوا یسیرون في الشوارع بسیاراتهم الفارهة أو عربات الخیول ذات الجوانب

اللامعة. لم یكن أحد یعرف من هذه الأسطورة ما هو الحقیقي وما هو المختَلَق، بل إن ونستون نفسه لم یستطع تذكر التاریخ الذي جاء فیه الحزب إلى الوجود، ویعتقد أنه لم یسمع بكلمة «إنج شك» قبل عام 1960، ولكن قد یكون من الممكن أنها قد اشتقت من «الاشتراكیة الإنجلیزیة» في اللغة القدیمة، مما یعني أنها كانت أسبق.

كان الضباب یحجب كل شيء. وكان بمقدورك أحیاناً أن تضع یدك على أكذوبة محددة. فعلى سبیل المثال، تزعم كتب تاریخ

الحزب أن الحزب هو أول من اخترع الطائرات، فیما ونستون یذكر الطائرات منذ طفولته الأولى، ولكن لا یمكن الحصول على

برهان لنقض هذا الادعاء. مرة واحدة في حیاته وقعت یداه على دلیل وثائقي لا یمكن دحضه، برهان على تزییف حقیقة تاریخیة.

وفي تلك المناسبة... هنا قاطعه صوت غاضب آت من شاشة الرصد «سمیث، یا سمیث رقم 6079 ِ، نعم أنت، انحن أكثر إلى الأسفل، إنك تستطیع أن تؤدي أداء أفضل، لكنك لا تبذل جهداً أكثر رجاء. هذا أحسن أیها الرفیق. الآن استریحوا كافیاً، انحن جمیعاً وراقبوني.»
وفجأة تصبب كل جسم ونستون عرقاً حاراً، ومع ذلك بقي وجهه خلواً من أي انفعال. فلیس له أن یظهر الخوف ولیس له أن یظهر الاستیاء. رفة عین واحدة یمكن أن تودي بك. كان ونستون واقفاً یراقب بینما رفعت المدربة ذراعیها فوق رأسها ثم انحنت (لیس للمرء أن یقول بلطف ولكن بخفة وإتقان) ثم وضعت أصابع یدیها تحت أصابع قدمیها.
«هكذا یا رفاق. هكذا أریدكم أن تفعلوا. راقبوني ثانیة. أنا في التاسعة والثلاثین من عمري ولدي أربعة أطفال. الآن انتبهوا»،

وانحنت ثانیة: «لاحظوا. ركبتاي غیر مثنیتین، باستطاعتكم جمیعاً أن تفعلوا مثلي إذا أردتم» قالت ذلك وهي تنتصب ثانیة. «إن أي شخص لم یتجاوز الخامسة والأربعین یمكنه أن یلمس أصابع قدمیه.

فنحن الذین لم نحظ بشرف القتال على خطوط الجبهة، علینا على الأقل أن نبقى متمتعین باللیاقة. تذكروا أبناءنا على جبهة مالابار! والبحارة على القلاع العائمة! فكروا فقط في كل ما علیهم أن یتحملوه. والآن حاولوا ثانیة، هذا أفضل یا رفیق، أفضل

بكثیر»، قالت مشجعة حین نجح ونستون بعد جهد جهید في ملامسة أصابع قدمیه دون أن یثني ركبتیه للمرة الأولى منذ

سنوات عدیدة.

بتنهیدة عمیقة ولاإرادیة، لم یمنعه حتى قربه من شاشة الرصد عن زفرها وهو یبدأ عمل یومه، سحب ونستون جهاز التسجیل

باتجاهه ثم نفخ الغبار عن مهتافه. لبس نظارتیه، وأخرج أربع لفافات صغیرة من الورق وثبتها بمشجب، وكانت هذه اللفافات قد أُلقیت من الأنبوب الهوائي الموجود إلى یمین طاولته. في حجیرة مكتبه كانت هنالك ثلاث فتحات: عن یمین جهاز

التسجیل أنبوب هوائي صغیر للرسائل المكتوبة . وعن یساره أنبوب أكبر للصحف. وفي الحائط الجانبي، في متناول ید ونستون كوة كبیرة مستطیلة الشكل ومغطاة بشبكة سلكیة. وهذه الأخیرة كانت للتخلص من الأوراق التالفة . كان هنالك آلاف أو عشرات الآلاف مسن هذه الكوى المتشابهة داخل البناء، لیس في الغرف فحسب، بل حتى على مسافات قصیرة في الممر. لسبب ما كان الناس یسمونها قبور الذاكرة . فعندما كان یعرف المرء أن هنالك وثیقة تَقرر إتلافها، أو حتى عندما یرى قطعة ورق تالفة ملقاة هنا أو هناك، كان تلقائیاً یقصد أقرب قبور الذاكرة ویرفع غطاءها ثم يرمي بها داخلها، حیث یحملها تیار من الهواء الدافيء إلى أفران ضخمة مخفیة في تجاویف البناء.
حل ونستون لفافات الورق الأربع وتفحصها. كانت كل واحدة منها تحتوي على رسالة من سطر أو سطرین فقط باللغة المختصرة ، وهیلیست لغة جدیدة فعلیاً ولكنها تتألف في معظمها من مفردات من اللغة الجدیدة. تستعمل في الوزارة للأغراض الداخلیة . وكانت تجري على النحو التالي:
الزمان، 17-3-84 ، خطاب للأخ الكبیر نقل مغلوطاً إلى افریقیا. نقحه

الزمان، 19-12-83، التوقعات 3، ي ب، الربع الرابع، 83، أخطاء مطبعیة، دققوا الإصدار الحالي.
الزمان 14-2-84، وزارة الوفرة، حصل خطأ بالشوكولا، تحققوا.
الزمان 13-2-83 ، نقل أمر الیوم لـ غ ك خاطئ جداً، لا تشیروا إلى أشخاص، أعیدوا للكتابة وأتلفوا الأوراق السابقة.
بقلیل من الرضا نحى ونستون الرسالة الرابعة جانباً، إذ كانت معقدة وعلى درجة من الأهمیة تجعل من الآنسب إرجاء معالجتها إلى الآخر. أما الرسائل الثلاث الأخریات فقد كانت أموراً روتینیة الطابع، بینها واحدة توحي بوجوب الخوض في غمار قوائم أرقام مملة .
أدار ونستون

أرقاماُ خلفیة

على شاشة الرصد طالباً أعداداً معینة من مسحوقة

التایمز

. انزلقت الصحیفة من الأنبوب

الهوائي بعد بضع دقائق فقط. وكانت الرسائل التي تلقاها تشیر إلى مقالات أو فقرات إخباریة سیتعین لسبب أو لآخر تعدیلها ، أو على حد قول العبارة الرسمیة، تصحیحها. فعلى سبیل المثال نشرت صحیفة

التایمز

في عددها الصادر في السابع عشر من مارس أن الأخ الكبیر، في خطابه الذي ألقاه قبل یوم، تنبأ أن جبهة جنوبي الهند ستظل هادئة ، فیما ستشن أوراسیا هجوماً وشیكاً على شمال أفریقیا . ولكن ما حدث هو أن القیادة العلیا الأوراسیة قد شنّت هجومها على جنوب الهند ولیس على شمال افریقیا . لذلك كان من الضروري إعادة كتابة الفقرة الموجودة في خطاب الأخ الكبیر بالشكل الذي یظهر اأه تنبأ بما وقع فعلاً ً.
كما أن «التایمز» في عددها التاسع عشر من كانون الأول (دیسمبر) قد نشرت التوقعات الرسمیة لإنتاج أصناف مختلفة من السلع الاستهلاكیة في الربع الأخیر من العام 1983 ، والذي كان في الوقت نفسه الربع السادس من الخطة الثلاثیة التاسعة .

أما عدد للیوم فقد احتوى على بیان بالإنتاج الفعلي الذي تبین من خلاله أن التوقعات كانت خاطئة إلى حد كبیر في كل جوانبها. وكانت مهمة ونستون تصحیح أرقام التوقعات الأصلیة وجعلها تتفق مع الأرقام الجدیدة . أما بالنسبة إلى الرسالة الثالثة فقد كانت تثیر إلى خطأ صغیر جداً یمكن تصحیحه في غضون دقیقتین. فمنذ فترة وجیزة تعود إلى شباط (فبرایر)، بينت وزارت الوفرة قد أصدرت وعداُ (أو حسب العبارة الرسمیة « تعهداً قاطعاً») بأنه لن یكون ثمة تخفیض في حصة الشوكولا خلال عام 1984. هذا بینما كان ونستون على معرفة بأن حصة الفرد من الشوكولا سیتم تخفیضها فعلاً من ثلاثین غراماً إلى عشرین بنهایة الأسبوع الحالي . ومن ثم كان یتوجب علیه هو استبدال كلمة «الوعد» المشار إلیها في البیان

بكلمة «تحذیر» من احتمال اللجوء اضطراراً لتخفیض حصة الشوكولا في وقت ما من نیسان (أبریل) .
وحالما انتهى ونستون من معالجة هذه الرسائل، أرفق تصحیحاته بالأعداد الخاصة بها من «التایمز» ثم دفعها في الأنبوب الهوائي.
وبعدئذ، وبحركة یبدو أنها لا إرادیة جعد الرسائل الأصلیة وأیة ملاحظات كان قد دونها بنفسه ، ثم رمى بها جمیعاً في أحد قبور

الذاكرة لتلتهمها النیران .
أما ماذا كان یجري في المتاهة غیر المرئیة حیث ینتهى الأنبوب

الهوائي فأمر لم یكن ونستون یعرفه بصورة مفصلة ، وإنما كان فقط یلم به إلماماً عاماً. فحالما یتم تجمیع ومقارنة كافة

التصحیحات التي یصدف أن تكون لازمة في عدد من أعداد «التایمز»، یعاد طبعه من جدید، ویتم إتلاف النسخة الأصلیة

ووضع النسخة المصححة في ملفات المحفوظات محلها. ولم تكن المرارت وما زالت محفوظة في ملفاتھا حاملة تاریخھا الأصلي دون أن تظھر أي نسخ أخرى تناقضھا. وحتى الكتب أیضاً كان یتم استردادھا وإعادة كتابتھا المرة تلو المرة، ثم إعادة طباعتھا بصورة مغایرة دون الإشارة إلى أي تغییرات جرت علیھا. بل وحتى التعلیمات الخطیة التي كان یتسلمھا ونستون والتي كان یتخلص منھا فور الانتھاء منھا ، لم تشر من بعید أو قریب لأي عملیات تزییف یتعین القیام بھا. وكل ما كان یشار إلیه دوماً هو مجرد هفوات أو أخطاء مطبعیة أو اقتباسات مغلوطة یلزم تصحیحها توخیاً للدقة.

ولكن ونستون كان یعتبر، وهو یعید ضبط أرقام وزارة الوفرة، أنذلك لیس تزییفاً، بل مجرد استبدال تفاهات بتفاهات. فمعظم

المواد التي كان یتعامل معها لم تكن تمت بصلة لما یحصل على أرض الواقع . فالإحصائیات كانت وهمیة في نسخها الأصلیة شأنها شأن نسخها المعدلة . وفي كثیر من الأحیان كان من المفترض أن تختلقها اختلاقاً من مخیلتك. فعلى سبیل المثال كانت توقعات وزارة الوفرة قد قدرت إنتاج الأحذیة الربع سنوي بمائة وخمسة وأربعین ملیون زوج من الأحذیة، بینما كان الإنتاج الفعلي اثنین وستین ملیوناً . ولدى إعادة كتابة التوقعات، خفض ونستون الرقم إلى سبعة وخمسین ملیوناً مفسحاً بذلك المجال للادعاء لاحقاً بأن ثمة فائضاً في الحصة المقررة . وعلى أي حال، فإن اثنین وستین ملیوناً لم تكن أقرب إلى الحقیقة من سبعة وخمسین ملیوناً أو من مائة وخمسة وأربعین ملیوناً، ومن الممكن ألا یكون قد تم إنتاج أي أحذیة على الإطلاق. بل وعلى الأرجح، لم یكن أحد یعرف ما تم إنتاجه أو حتى یبالي بمعرفة ذلك. فكل ما كان یعرفه المرء عن إنتاج الأحذیة هو أرقام فلكیة لا توجد إلا على الورق،

في الوقت الذي كان زهاء نصف سكان أوقیانیا حفاة ، وهكذا كان شأن كافة الحقائق المسجلة، صغیرة كانت أم كبیرة. فكل شيء یتلاشى في عالم من الظلال إلى حد یصبح معه حتى تاریخ السنة أمراً مشكوكاً فیه.
رفع ونستون ناظریه عبر القاعة . في الحجرة المقابلة لمكتبه على الجانب الآخر كان ثمة رجل ضئیل الجسم، دقیق الملامح، ذو ذقن سوداء، یدعى تیلوتسون، یعمل بدأب، واضعاً على ركبتیه صحیفة مطویة، ومقرباً فمه من مهتاف جهاز التسجیل. وكان یبدو من هیئته أنه یحاول الاحتفاظ بما یقوله سراً، بینه وبین شاشة الرصد . وعندما رفع رأسه لاحظ أن ونستون ینظر إلیه، فبادله بنظرة عداء

يتبع....

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك