صرخة الدم



القصة التي سأسردها هي قصة حقيقية سمعتها من والدي رحمه الله ومن أشخاص آخرين وهي قصة معروفة ومشهورة تناقلها أجدادنا وآباؤنا حتى بلغت مسامعنا نحن والمكان الذي حدثت فيه القصة مكان معروف للكثيرين أيضاً .

سأسردها كما سمعتها إنما بتغيير اسم صاحبة القصة .

جلست كعادتها كل يوم مستندة بظهرها إلى الشجرة تتأمل جمال الطبيعة الفتان من حولها فرائحة الزهور العطرة ومنظر الأشجار الخضراء المثمرة والنخيل الباسقة والطيور المغردة يسحر العقول والألباب .،

كان هذا دأبها كل صباح ما إن تنهي عملها في البستان حتى تجلس قرب هذه الشجرة ذاكرة ربها .إذ لا ابن لها فترعاه ولا زوج لها فتتلقاه لقد غادر زوجها الدنيا إلى رحمة الله تاركا إياها وحيدة في هذه الدنيا مخلفا وراءه داره وهذا البستان .

حسبت أن يومها هذا سيمر كما سائر الأيام في هدوء وسكون لا يعكر صفوه شيء أبدا ، لكن إعتقادها هذا سرعان ما زال عندما شعرت بحركة داخل البستان وسمعت صوت أحدهم هاتفا يبحث عن صاحب المكان . نهضت من مكانها مسرعة وتوجهت إلى مصدر الصوت .

كان الداخل إلى البستان رجل يبدو من هيئته أنه ميسور الحال ، سألته عن حاجته فقال : إنه راغب في شراء البستان .

أصغت لحديثه ثم عاجلته بجواب نهائي حازم وقاطع ، البستان ليس للبيع ولن يكون عرضة للبيع أبدا . حاول الرجل بكل سبل الإقناع الممكنة أن يثنيها عن رأيها لكنها أبت إلا الثبات عليه فانصرف من المكان حانقا غاضبا .

لم تخل تلك المسكينة أن موقفها هذا سيعرضها لما لا تحمد عقباه ، تابعت تصريف شؤونها بكل أريحية كما تفعل دائماً ، اجتمعت بجاراتها وصديقاتها وحدثتهم عن أمورها وحادثوها بأمورهن وانقضى اليوم بسلام .

أشرقت شمس يوم جديد حاملة معها النور والضياء ، ما إن صافح الضوء محياها حتى حثت خطاها إلى بستانها بهمة ونشاط لتبدأ يوم عملها الشاق الممتع .

انقضى صباح ذلك اليوم في زرع وقطاف حتى انتصف النهار فتوجهت إلى شجرتها المفضلة ، جلست مسندة ظهرها عليها ذاكرة رب العالمين .

دخل رجل من القرية إلى البستان بعد حين ، ناداها فلم يسمع جوابا لندائه فتقدم باتجاه الشجرة ، رأها مستندة إليها فاستمر في محادثتها لكنها لم تجبه فخالها نائمة ، قرر المغادرة لكن شيئا ما أوقفه ، ما يراه حقيقة أم خيال ، إقترب من الشجرة مسرعا فوجدها مغطاة بالدم مقتولة ، أيقن أن أحدهم قد قتلها فصرخ صرخة مدوية وهو يركض مسرعا باتجاه مدخل البستان :

- قتلوها لقد قتلوها .

سمع الناس الصراخ فأتوا من كل حدب ومكان ليشهدوا ما لم يتوقعوه أبدا ، يا الله إنها مقتولة فعلا ، من القاتل ؟ أين ذهب ؟ ولم قتل ؟

تعالت الصرخات وعلا النحيب والبكاء ، وأبلغوا المعنيين بالأمر . دفنت المرأة وظلت قضية مقتلها الشغل الشاغل للجميع .

إذ لم يكن للمرأة أعداء ، إنها من النوع الصالح من البشر ذلك النوع الذي يدخل إلى قلوب الجميع دون إستئذان لطيبة قلبه وحسن خلقه .

بالكاد إنتهى عزائها إذ برجل ميسور الحال يدخل إلى القرية مدعيا أن البستان ملكه لأنه إشتراه من

مريم

منذ مده لكنه سمح لها بالبقاء فيه وبموتها يعود ملك البستان لأهله أي له وأحضر معه من يشهد له بهذا .

حامت كل الشبهات حوله فالبستان لم يباع لأحد وهذا ما يعرفه الجميع ، أضف لذلك لم لم يظهر الأمر إلا بعد موتها ؟ وكيف اشترى البستان وهي من أكدت لهم أنها رفضت بيعه ؟

لم يتم العثور على الأدلة المادية الملموسة التي تدينه ، لقد كانت إمرأة وحيده ما من ولي يطالب بدمها ، لذا نفذ بجلده ، لكنهم في قرارة أنفسهم أدركوا جميعا أنه القاتل ، ليت الأمر اقتصر على هذا لكنه استولى على البستان أيضا .

ما إن استولى على البستان حتى شهد وشهد الجميع معه ما لم يشهدوه من قبل .

فما أن إنتصف النهار حتى دوت صرخة مهوله من البستان سمعها كل من كان موجودا في محيطه

أنا مريم آكلي حرام ..........

. تعجب الناس من تلك الصرخة فهرولوا مسرعين بعضهم باتجاه البستان ليستطلعوا الأمر بينما فر الآخرين باتجاه مساكنهم فزعين .

من دخل البستان وقف مصعوقا مذهولا مرعوبا مما يرى ويسمع ، أكدوا جميعا أن ما رأوه هو بقعة كبيرة من الدم تخرج من أعماقها تلك الصرخات ، لم تكن تلك الصرخات صرخات آدمية بل صرخات غريبة مفزعة لكل أذن سامعة ، كما ظهرت تلك البقعة وتلك الصرخة فجأة اختفت فجأة وكأن شيئا لم يكن .

زادهم ما حدث عجبا على عجب ورعبا على رعب .

بات الأمر حديث الساعة ، انتشر الخبر في قريتهم وفي القرى المجاورة لهم كإنتشار النار في الهشيم .
تناول الناس الخبر في ذلك اليوم بين مصدق ومكذب له ، لكنهم لم يعلموا أن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد فما أن إنتصف نهار اليوم التالي حتى علت الصرخات مجددا وحدث ما حدث في اليوم الأول ، بقي الوضع على حاله لأيام وأيام فمع انتصاف كل نهار تعلو الصرخات وتظهر بقعة الدم .

خشى الناس الإقتراب من ذلك البستان فباتوا يتجنبون السير بقربة إلا ثلة قليلة من الشباب كان لهم رأي آخر ، قرر هؤلاء أن يميطوا اللثام عن حقيقة ما جرى ، دخل بعضهم البستان باحثا ومنقبا ، بحثوا في كل زاوية من زواياه علهم يعثرون على تفسير منطقي لما رأوا وسمعوا أما الآخرين فباتوا زوارا دائمين لا شغل لهم إلا إنتظار انتصاف النهار ليروا ويسمعون صرخة الدم .

لم يعثر الناس على تفسير منطقي لما حدث فتباينت آراءهم واختلفت إلا أن الجميع توصل إلى حقيقة واحدة أن قاتل المرأة هو مالك البستان الحالي ، وأن الصرخة هي الدليل المبين على فضاعة جرمه . على الرغم من قناعتهم بذنبه لم يتمكنوا من مقاضاته أو القصاص منه فأي قاض هو هذا الذي سيبني حكمه بناءا على صرخة دم ، بقيت تلك الصرخة ملازمة للبستان لمدة طويلة ويقال بأنها قد توقفت بموت من استولى على البستان .

سمعت هذه القصة في صغري من عدة أشخاص وهم أهل للثقة لذا بقيت نصب عيني شاغله لفكري ، ما حدث لم يكن جريمة قتل لم يمط اللثام عنها فحسب بل هي لغز محير ، لغز الألغاز ، لغز لم يحل ويبدو أنه لن يحل أبدا .

وضعت فرضية لما حدث لكن المنطق فرض نفسه وفندها تفنيدا .

تقوم الفرضية على أن أحدهم أراد الانتقام لمقتل المرأة الصالحة فابتكر فكرة الدم والصرخة ، إلا أن المنطق يقول : أن الناس في ذلك الزمن لم تعرف التكنولوجيا مطلقا وبالتالي لم تعرف المؤثرات الصوتية والخداع البصري . إذن كيف ظهر الدم والصرخة وكيف اختفيا ، علما بأن الناس لم يعثروا آنذاك ولا لاحقا على حفرة أو سرداب تتيح لصاحبها تنفيذ مثل هذه الأفكار .

لقد كان الأمر غريبا عجيبا يلفه الغموض ويبدو أنه سيبقى هكذا

النهاية.

اضف تعليقك (سجل دخولك للموقع اولاً)
loading...

قصص مقترحة لك